أهمية المساجد ودورها في الإسلام
د. شاكر فرُّخ الندوي
أهمية المساجد ودورها في الإسلام
إن للمساجد دورًا عظيمًا في الإسلام، إنها بيوتُ الله تعالى، وهي أشرف البقاع على وجه البسيطة؛ حيث يُذكَر فيها اسم الله جل وعلا ليلَ نهارَ وصباح مساء، ويحضرها رجال لا يغفُلون عن طاعته سبحانه وتعالى في غدواتهم ورَوْحاتهم، في شُغلهم وفراغهم، في حِلِّهم وتَرحالهم؛ ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36، 37]، فإن المساجد تغيّر أحوال الإنسان من شقاء إلى سعادة، ومن ضِيق إلى رخاء، والمساجد تعالج القلوب؛ حيث تجلعها رقيقةً ومجلوّةً من صدأ الذنوب والآثام التي يرتكبها الإنسان، وهذه البقاع من الأرض - أي: المساجد - تنزل عليها الرحمات، وترفُّ عليها الملائكة بأجنحتها، وهي أماكن المنافسة في الخيرات.
وإن المساجد خيرُ الأماكن لتربية المسلمين؛ فإنها تُلقي على الحضور درس الأخوّة والمساواة، يحضر فيها المسلمون، ويجتمعون في مكان واحد، ويقومون في صف واحد، ويصلُّون خلف إمام واحد؛ فلا فرق بين العبد والسيد، والملِك والخادم، والغني والفقير، والشيخ العالم والرجل العادي، كلهم سواء أمام الله جل وعلا، لا يفضل أحدٌ منهم على الآخر إلا بالتقوى، ومكانها القلب؛ فإن المساجدَ تعلم الناس أن يعيشوا سويًّا متكاتفين ومتضامنين، ولا يعتدي أحد على الآخر بحسَبه ونسبه، أو بمنصبه أو شغله أو وظيفته.
فالمسجد هيئة إسلامية عظيمة تفُوق جميع الهيئات واللجنات التي تنشأ وتقام في البلدان، ويزعم مؤسّسوها أنها خيرُ مؤسسة أو هيئة لإصلاح المجتمعات البشرية، فلا يمكن إصلاح المجتمع إلا بتفعيل دور أكبر مؤسسة وأعظمها على وجه الأرض، وهي المساجد؛ لأنها تربي المجتمع تربيةً إيمانيةً متكاملةً، وتقوم بصبغ الإنسان بأحسن صبغة، وهي صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة؛ ولذا نجد أن معلم البشرية محمدًا صلى الله عليه وسلم قد عمد إلى تأسيس وإرساء قواعد المساجد إبان وصوله إلى المدينة المنورة حاضرة دولة الإسلام الوليدة، ومن هنا بدأ دور المساجد في تربية المجتمعات الإسلامية، ومع مرور الزمن أصبح من المسلَّم به أن المساجد لا يقتصر دورها على أن يحضرها المسلمون لأداء الصلوات فحسب، بل إنها تقوم بجمع شمل الأمة الإسلامية، وتجمع قلوب المسلمين على المحبة والاحترام، والتآخي والتعاطف والتراحم، وتمنح لهم الطمأنينة والسكينة، وتدعوهم إلى إحياء رُوح الإسلام فيما بينهم.
فإن المسلم حينما يحضر المسجد، ويقتدي بإمام مع إخوانه المسلمين، ويستمع للخطيب، تتأكد فيه المبادئ الإسلامية السامية، وتثبت في نفسه عظَمة الإسلام وحضارته الصافية النقية، وتحيا فيه معاني الصفح والمودة، والتواصل والتراحم، وحينما يهَشُّ المسلمُ في وجه أخيه ويبَشُّ له، ويصافحه ويعانقه، ينصهر ويذوب كل ما في القلوب من الضغائن والأحقاد.
والمساجد كانت خير مراكز للتربية في العصور الإسلامية السالفة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير نموذج لذلك؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحضرون هذا المسجد ويتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجون إليه، بل كل ما تحتاج إليه البشرية، يسألونه صلى الله عليه وسلم في أمور دِينهم ودنياهم، فأصبح هذا المسجد مصدرَ إشعاع ومنبع نور للبشرية كلها، وتخرَّج فيه علماء أعلام وقادة كبار حملوا راية الإسلام، ونشروا هذا الدين المتين في ربوع العالم كله، ومن ثم بدأت حلقات الدرس والإفادة في جميع المساجد في البلاد الإسلامية، حيث لم يكن هناك مدارس منظمة يقصدها الطلاب، والعلماء كانوا يختارون مكانًا في مسجد ويلقون الدروس للمتلقين، ويشهد التاريخ بما كان لمساجد بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة ودمشق والموصل والحواضر الإسلامية الأخرى من دَور عظيم في النهضة الإسلامية الواسعة، فيكتب الدكتور عبدالرحمن السيد في كتابه "مدرسة البصرة النحوية" في هذا الصدد:
"لم تكن هناك بطبيعة الحال مدارس منظمة أو معاهد مهيَّأة يلتقي فيها المعلمون والمتعلمون على النحو الذي نراه في عصرنا الحاضر، وإنما كانت الدراسة ملائمة لهذه الحقبة من تاريخ البشرية، متمشية مع حاجات الناس في ذلك العصر المتقدم، فكان من جملة ما يسعى إليه الدارسون لأخذ العلم والأدب واللغة المساجدُ، فكانت حلقات الدراسة تُعقَد فيها".
ويتضح من هذا دور المساجد في نشر العلوم والمعارف، والثقافة الإسلامية، ولكن لا يقتصر الأمر على ذلك، فلم تكن المساجد مراكز علم فحسب، بل إنها كانت أفضل المراكز لتربية النفوس، وكانت تعلِّم زوَّارها الحِلم والأناة، والرفق مع الآخرين، والبُعد عن القسوة والشدة؛ كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه - أي: ليدفعوه بالعنف - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعُوه وأهريقوا على بوله سَجْلاً من الماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين))[1].
والمسجد مبعث النور في دنيا الظلمات الحالكة، ومصدر الحياة في بيداء الحياة الموحشة؛ فإنه يؤهل المسلمين للحياة النافعة الكريمة، ويحثهم على التقوى والتطهير، ويطالبهم ألا يدخلوه إلا بطهارة أبدانهم وقلوبهم، إنه: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
والوصول إلى المساجد والحضور إليها أمر عظيم يوجب للإنسان المغفرة؛ فإن مَن يرتاد المساجد لأداء الصلوات لا بد لنا أن نشهد له بالإيمان؛ لأنه قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18]، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فضل المعتاد إلى المسجد.
كما أن مَن يشق على نفسه للوصول إلى المسجد والحضور إليه لأداء الصلوات الخمس في الليالي الحالكة التي يصعب فيها الخروج من البيت بسبب الظلام، فإن الله تعالى لا يضيع أجره، بل إنه يأجره في الدنيا، ويعطيه يوم القيامة نورًا يمشي به؛ كما أخبرنا بذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))[2].
ورجال الأمة الإسلامية كانوا يهتمون بالمساجد والحضور إليها في الأزمان الغابرة، بل كانت قلوبهم معلَّقة بالمساجد، يحضرون فيها لأداء الصلوات، وللاستماع إلى الدروس الإيمانية، ولإعداد النفوس للقاء الله جل وعلا، وللحصول على التربية الإيمانية، وكانت منابر المساجد يصعد إليها الأئمة الأعلام المتقنون في العلوم الإسلامية؛ حيث يُلقون إلى المخاطبين دررًا ثمينةً لتزكية نفوسهم.
ولكن حينما نتفقد اليوم أحوال الأمة الإسلامية في سائر بقاع الأرض، نجد أن المساجد أصبحت مهجورةً، وأصبحت تشكو من سوء أحوال المسلمين، الذين يقصِدون حانات الخمر وأماكن البغاء والدعارة، أو المقاهي والنوادي الليلية؛ ليبيتوا فيها لياليهم الثمينة في اللهو واللعب، والنرد والقمار، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الإباحية، فلا يرون المساجد إلا مكانًا للمتخلِّفين من أصحاب العمائم، أو الذين لم يكتب لهم أن يذوقوا هذه الملذّات الفانية.
وللأسف الشديد، فإن المساجد تغلق وتقفل بعد أداء الصلوات المفروضة في البلاد العربية والإسلامية أيضًا، كأنها لم تُبْنَ إلا للصلوات المفروضة فحسب، وليس لهذه المساجد دور في إصلاح المجتمع البشري، وتربية النفس الإنسانية.
فالحاجة ماسة اليوم إلى تفعيل دور المساجد ووظيفتها في إصلاح أحوال المسلمين؛ لأن المسجد ليس ديرًا ولا كنيسةً، وليس في الإسلام رهبانية تقطع المسلم عن مجريات الحياة، بل إنه دِين كامل شامل، ومن هذا المنطلق فإن البيت الذي اختص للعبادة في الإسلام لا بد أن ينطلق من هذه الشمولية، ويستوعب جميع المجالات، ويهتم بجميع عناصر المجتمع الإسلامي، ويقوم باستخدام طاقات الشباب ومواهبهم استخدامًا نافعًا للإسلام، ويزود أبناء الجيل الجديد بزادٍ من التقوى والإحسان والسلوك والمعرفة، ويغرس فيهم حب الإيمان والعمل الصالح.
والناس يبحثون اليوم عن أماكن تطمئن إليها قلوبهم، وترتاح بها نفوسهم، ويقصدون إلى المتنزهات والحدائق والفنادق ودور السينما؛ لكي يخفّفوا عن أنفسهم العبء الذي داخَلَ أرواحهم وضمائرهم، وآخرون يتوجهون إلى الأطباء لمعالجة قلوبهم، ولكنهم نسُوا اليوم أن الأرواح لا تجد راحتها إلا بالحضور إلى المساجد، والقلوب لا تطمئن إلا بذكر الله، لم يقرؤوا قول الله تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
فالمسؤولية تقع على العلماء أن يؤكدوا للجاليات الإسلامية أهمية المسجد وفضله، ويسعوا لتفعيل دوره، ويقيموا فيه مجالس علمية وتربوية، ويدعوا الناس - وخاصة الشبابَ منهم - برِفق وهوادة، ويقدموا إليهم تعاليم الإسلام النقية الصافية بأسلوب يجذبهم إلى الدين، ويعيدوا إليهم الثقة بالإسلام وحضارته الخالدة، فالمساجد تناديكم جميعًا - أيها المسلمون - أن سبب جُل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعانونها يرجع إلى عدم اهتمامكم بالمساجد، فتعالوا نعاهد الله تبارك وتعالى ألا نغفُل عن مساجدنا منذ اليوم، وأن نجعلها مراكز للإشعاع الديني، وللتربية الإيمانية كما كانت في الماضي.
[1] صحيح البخاري، رقم: 6128.
[2] سنن الترمذي، رقم: 223.
《
#منتدى_المركز_الدولى》