جمع القرآن وترتيبه
الشيخ صلاح نجيب الدق
🟩جمع القرآن وترتيبه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استنَّ بسنته واهتدى بهَديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأقول وبالله تعالى التوفيق:
🟢معنى جمع القُرْآن:
يطلق جمع القُرْآن ويراد به عند العلماء أحدُ معنيين:
المعنى الأولى: جمعه بمعنى حفظه، وجماع القُرْآن: حفاظه، وهذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كان يحرِّك شَفَتيه ولسانَه بالقُرْآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصًا على أن يحفظَه: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19].
روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ [القيامة: 16] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه - فقال ابن عباس: فأنا أحرِّكهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه - فأنزل الله تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 16، 17]، قال: جَمْعَه لك في صدرك وتقرأه، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، قال: فاستمع له وأنصت: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 19]، ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريلُ قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه؛ (البخاري حديث: 5).
الكثير من الصحابة كانوا يحفظون القُرْآن كاملًا:
كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في حفظ القُرْآن،ويتسابقون إلى مدارسته وتفهُّمه، ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه، وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارًا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام، حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويًّا كدوي النحل بالقُرْآن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُذْكي فيهم روح العناية بالتنزيل، يبلغهم ما أنزل إليه من ربه،ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلِّمهم ويُقرِئهم، كما بعث مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلِّمانِهم الإسلام ويقرئانهم القُرْآن، وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ : 241).
روى أحمد عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القُرْآن، فدفع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فكان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القُرْآن، فانصرف انصرافةً إلى أهله، فرأى أن عليه حقًّا، فأهدى إليَّ قوسًا لم أرَ أجود منها عودًا، ولا أحسن منها عطفًا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما ترى يا رسول الله فيها؟ قال: ((جمرة بين كتفيك تقلَّدْتَها - أو تعلَّقْتَها))؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 37 صـ 426 حديث: 22766).
روى الشيخان عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، قال: جمع القُرْآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أربعة، كلهم من الأنصار: أبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت، قلت لأنس: مَن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي؛ (البخاري حديث: 3810/ مسلم حديث: 2465).
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القُرْآنَ غيرُ أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (قيس بن السكن)، قال: (ونحن ورثناه)؛ (البخاري حديث: 5004).
هذا الحصر الموجود في هذا الحديث حصر نسبي، وليس حصرًا حقيقيًّا حتى ينفي أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام القرطبي (رحمه الله) تعليقًا على حديث أنس بن مالك: قُتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، وإنما خص أنس الأربعة بالذكر؛ لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 9 صـ 52).
قال المازري (رحمه الله): لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القُرْآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 9 صـ 52).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): الذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القُرْآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم،ففي بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنى أبو بكر مسجدًا بفِناء داره، فكان يقرأ فيه القُرْآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه، مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القُرْآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة، وكثرة ملازمة كل منهما للآخر، حتى قالت عائشة في الهجرة: إنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرةً وعشيةً، وقد صحح مسلم حديث: ((يؤم القومَ أقرؤُهم لكتاب الله))، وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض، فيدل على أنه كان أقرأهم، وتقدم عن عليٍّ أنه جمع القُرْآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 8 صـ 668).
* روى النسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: جمعت القُرْآن، فقرأت به في كل ليلة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((اقرأ به في كل شهر))، فقلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: ((اقرأ به في كل عشرين))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فقال: ((اقرأ به في كل عشر))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: ((اقرأ به في كل سبع))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فأبى؛ (حديث صحيح) (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 8 صـ 668).
ذكر أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلَّام (رحمه الله) القراءَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعَدَّ مِن المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدًا وابن مسعود وحذيفة وسالمًا وأبا هريرة وعبدالله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعَدَّ ابنُ أبي داود مِن المهاجرين أيضًا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر، ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذًا ومجمع بن حارثة وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضًا أبو موسى الأشعري، ذكره أبو عمرو الداني؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 8 صـ 669).
المعنى الثاني: جمع القُرْآن بمعنى كتابته كله، مفرَّق الآيات والسور، أو مرتَّب الآيات فقط، وكل سورة في صحيفة على حدة، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعًا، وقد رتب إحداها بعد الأخرى.
جمع القُرْآن، بمعنى كتابته في مصحف واحد، قد مر بثلاث مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
أولًا: جمع القُرْآن بمعنى حفظه عن ظهر قلب:
كان الكثير من الصحابة يحفظون القُرْآن.
ثانيًا: جمع القُرْآن بمعنى كتابته في صُحف متفرقة:
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتَّابًا للوحي من أجلاء الصحابة؛ كعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبيِّ بن كعب، وزيد بن ثابت، تنزل الآية فيأمرهم بكتابتها، ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، حتى تطابق الكتابةُ في السطور الجمعَ في الصدور.
كان الصحابة يكتبون القُرْآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على العسب، وهي: جريد النخل، وعلى اللخاف، وهي: الحجارة الرقيقة، وعلى الرقاع، وهي: الأوراق، وقطع الأديم، وهي: الجلد وعظام الأكتاف، والأضلاع، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا انقضى عهد النبوة ولم يُجمَع القُرْآن في مصحف واحد، بل كُتب منثورًا بين قطع الجلد والعظام ونحوها؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 247).
🟥 سؤال هام: لماذا لم يجمع القُرْآن في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
لم يجمع القُرْآن الكريم في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأسباب كثيرة، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- الكثير من الصحابة كانوا يحفظون القُرْآن في صدورهم، وكانت الفتنة في تحريف القُرْآن مأمونة.
2- قلة توفر أدوات الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3- كان النبي صلى الله عليه وسلم بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله تعالى من الآيات.
4- القُرْآن لم ينزل جملة واحدة، بل نزل مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 249: 248).
المرحلة الثانية: جمع القُرْآن في عهد أبي بكر الصِّدِّيق:
روى البخاري عن عبيد بن السباق: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحَرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القُرْآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القُرْآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القُرْآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّعِ القُرْآن فاجمعه؛ فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القُرْآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القُرْآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياتَه، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه"؛ (البخاري حديث: 4986).
فائدة هامة:
إن جمع أبي بكر الصِّدِّيق للقُرْآن كان بسبب خشيته أن يذهب من القُرْآن شيء بذهاب حَمَلتِه؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ (المصاحف لابن أبي داود صـ 11: صـ 16).
روى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر الصِّدِّيق، كان أول من جمع القُرْآن بين اللوحين؛ (فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل صـ 354 حديث: 513).
️تسمية المصحف:
لما جمع أبو بكر الصِّدِّيق القُرْآن قال: سمُّوه، فقال بعضهم: سمُّوه إنجيلًا، فكرهوه، وقال بعضهم: سمُّوه السِّفر، فكرهوه من يهودَ،فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتابًا يدعونه المصحف، فسموه به؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 282: 281).
🟩منهج أبي بكر في كتابة المصحف:
انتهج زيد بن ثابت في القُرْآن طريقة دقيقة محكمة، وضعها له أبو بكر وعمر، فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبُّت بالغ وحذر دقيق وتحريات شاملة، فلم يكتفِ بما حفظ في قلبه ولا بما كتب بيده ولا بما سمع بأذنه، بل جعل يتتبع ويستقصي، آخذًا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين:
أحدهما: ما كتب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال،وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كُتب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن شبة عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يجمع القُرْآن، فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القُرْآن فليأتِنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان؛ (تاريخ المدينة لابن شبة صـ 705).
قال ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): المراد بالشاهدين: الحِفظ والكتابة.
وقال السخاوي (رحمه الله): المراد بهما رجُلان عدلان يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولم يعتمد زيدٌ على الحفظ وحده؛ ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري: إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة؛أي: لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيدًا كان يحفظها، وكان الكثير من الصحابة يحفظونها، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادةً في التوثُّق، ومبالغة في الاحتياط،وعلى هذا المنهج الرشيد تم جمع القُرْآن بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير،وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، وللصحابة في المعاونة والإقرار،وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بن ثابت بما تستحق من عناية فائقة؛ فحفِظها أبو بكر عنده،ثم حفظها عمرُ بعده،ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر، حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القُرْآن، ثم ردها؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 253: 252).
مزايا مصحف أبي بكر الصِّدِّيق:
أولًا: جمع القُرْآن على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلمِ أصول التثبيت العلمي.
ثانيًا: اقتصر المصحف على ما لم تنسخ تلاوته.
ثالثًا: ظفر المصحف بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.
ولا يطعن في ذلك التواتر أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة؛ فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبًا إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظًا عند كثرة من الصحابة بلغت حد التواتر، وكان المعتمد عليه وقتئذ هو الحفظ والاستظهار،وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر.
رابعًا: هذا المصحف كان شاملًا للأحرف السبعة التي نزل بها القُرْآن تيسيرًا على الأمة الإسلامية، كما كانت الأحرف السبعة في الرقاع كذلك؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 253).
المرحلة الثالثة: جمع القُرْآن في عهد عثمان بن عفان:
روى البخاري عن أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القُرْآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفُق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القُرْآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق؛ (البخاري حديث: 49).
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤون القُرْآن بعده على الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز وجل إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان رضي الله عنه، وذلك بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وعظيم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة، وتدارُك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع القُرْآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك الخلاف، وتتفق الكلمة، واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقُرْآن، فحينئذ أرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، فأرسلت إليه، فأمر زيد بن ثابت والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار، وأمر بحرق ما سوى ذلك من المصاحف،وهكذا حفظ الله كتابه العزيز من التحريف؛ (المصاحف لابن أبي داود صـ 25: صـ 34)، (فضائل القُرْآن للقاسم بن سلام صـ 152: صـ 162).
يجب على كل مسلم أن يعلم أن ترتيب آيات القُرْآن الكريم وسوره الموجود بين أيدينا الآن هو نفس الترتيب الذي عارض جبريل به النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم.
• عدد المصاحف التي كتبها عثمان بن عفان:
قال عبدالله بن أبي داود: سمعت أبا حاتم السِّجِسْتاني يقول: كتب عثمان سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا؛ (المصاحف لابن أبي داود صـ 43).
مزايا مصحف عثمان بن عفان:
(1) الاقتصار على ما ثبت بالتواتر دون ما كانت روايته آحادًا؛ (أي لم ينقله جماعة كبيرة عن جماعة كبيرة مثلهم).
(2) إهمال ما نُسخت تلاوته ولم يستقرَّ في العرضة الأخيرة.
(3) ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن،بخلاف صُحف أبي بكر رضي الله عنه؛ فقد كانت مرتَّبة الآيات دون السور.
(4) كتابة المصاحف بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة.
(5) تجريد المصاحف من كل ما ليس قُرْآنا؛ كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحًا لمعنى، أو بيانًا لناسخ ومنسوخ، أو نحو ذلك؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 261: 260).
الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان:
الباعث لدى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه لجمع القُرْآن خشية ضياع شيء من القُرْآن بذهاب حَمَلَته حين استحَرَّ القتلُ بالقرَّاء.
والباعث لدى عثمان بن عفان رضي الله عنه كثرة الاختلاف في وجوه القراءة، حين شاهد هذا الاختلاف في الأمصار، وخطأ بعضهم بعضًا،وجمع أبي بكر للقُرْآن كان نقلًا لما كان مفرقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، وجمعًا له في مصحف واحد مرتب الآيات والسور،مقتصرًا على ما لم تنسخ تلاوته، مشتملًا على الأحرف السبعة التي نزل بها القُرْآن الكريم.
وجمع عثمان للقُرْآن كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة، حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد، وحرف واحد يقرؤون به دون ما عداه من الأحرف الستة الأخرى؛ (مباحث في علوم القُرْآن لمناع القطان صـ 133).
قال الإمام ابن التين (رحمه الله): الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القُرْآن شيء بذهاب حَمَلَته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجًّا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع قراءته بلغة غيرهم، رفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 171).
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني (رحمه الله): لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القُرْآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 171).
وقال الحارث المحاسبي (رحمه الله): المشهور عند الناس أن جامع القُرْآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمانُ الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القُرْآن، فأما السابق إلى الجمع من الحمَلة فهو الصِّدِّيق؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 172: 171).
• تنقيط المصحف وتشكيله:
المعروف أن المصاحف التي كتبها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت خالية من النَّقط؛ حتى تبقى الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها.
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن أول من قام بتنقيط المصحف هو أبو الأسود الدؤلي، وقد تم تنقيط المصحف وشكله بصفة رسمية في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان، وإن قام بهذا العمل الجليل الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي، وكان الذي دفع عبدالملك بن مروان إلى هذا العمل هو اتساع رقعة الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بالعجم، وكادت لغة العجم تمس سلامة اللغة العربية،والذي اشتهر بوضع الفتحة والكسرة والضمة والتنوين وغير ذلك هو الخليل بن أحمد؛ (الإتقان جـ 4 صـ 160: صـ 162)، (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 406: صـ 408).
ترتيب آيات وسور القُرْآن
أولًا: ترتيب آيات القُرْآن:
معنى الآية:
الآية معناها: المعجزة؛فكل آية من آيات القُرْآن معجزة؛قال الله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ [البقرة: 211]؛ أي: معجزة واضحة.
فوائد هامة:
(1) عدد سور القُرْآن الكريم: (114) سورة.
(2) عدد آيات القُرْآن الكريم: (6236) آية.
(3) عدد كلمات القُرْآن الكريم: (77439)كلمة.
(4) عدد حروف القُرْآن الكريم: (323015) حرفًا؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 249).
(5) عدد نقط القُرْآن الكريم: (1025030) نقطة؛ (فنون الأفنان لابن الجوزي صـ 80).
(6) القُرْآن العظيم له ثمانية أنصاف:
فنِصفه بالحروف "النون" من: ﴿ نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74] في الكهف، "والكاف" من النصف الثاني.
ونصفه بالكلمات "الدال" من قوله: ﴿ وَالْجُلُودُ ﴾ [الحج: 20] في الحج، وقوله: ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ ﴾ [الحج: 21] من النصف الثاني.
ونصفه بالآيات ﴿ يَأْفِكُونَ ﴾ [الشعراء: 45] من سورة الشعراء، وقوله: ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ﴾ [الشعراء: 46] من النصف الثاني.
ونصفه على عدد السور آخر الحديد، والنصف الثاني من المجادلة؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 253).
انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القُرْآن الكريم على هذا الشكل الذي نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه،بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ويأمر كتَّاب الوحي بكتابتها، معيِّنًا لهم السورة التي تكون فيها الآية وموضع الآية من هذه السورة،وكان يتلوه عليهم مرارًا وتكرارًا في صلاته وعظاته، وفي حكمه وأحكامه،وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به في العام الأخير مرتين،كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف،وكذلك كان كل من حفظ القُرْآن أو شيئًا منه من الصحابة حفظه مرتب الآيات على هذا النمط،وشاع ذلك وذاع وملأ البقاع والأسماع، يتدارَسونه فيما بينهم، ويقرؤونه في صلاتهم، ويأخذه بعضهم عن بعض، ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن، فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القُرْآن الكريم،بل الجمع الذي كان على عهد أبي بكر لم يتجاوز نقل القُرْآن من العسب واللخاف وغيرها في صحف، والجمع الذي كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف في مصاحف،وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى؛ (مناهل العرفان في علوم القُرْآن للزرقاني جـ 1 صـ 347: 346).
استند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة، منها: ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بسور عديدة؛ كسورة البقرة وآل عمران والنساء، ومن قراءته لسورة الأعراف في صلاة المغرب، وسورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1] وسورة الروم في صلاة الصبح، وقراءة سورة السجدة وسورة ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ [الإنسان: 1] في صبح يوم الجمعة، وقراءته سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، وقراءته سورة ق في الخطبة، وسورة اقتربت وق في صلاة العيد، كان يقرأ ذلك كلَّه مرتَّب الآيات على النحو الذي في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة.
روى البخاري عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: قلت: لعثمان بن عفان: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾ [البقرة: 234] قال: قد نسختها الآية الأخرى، فلمَ تكتبُها أو تَدَعُها؟ قال: (يا بن أخي، لا أغيِّر شيئًا منه من مكانه)؛ (البخاري حديث: 4530).
فهذا حديث واضح في أن إثبات هذه الآية في مكانها مع نسخها توقيفي، لا يستطيع عثمان - باعترافه - أن يتصرف فيه؛ لأنه لا مجال للرأي في مثله.
روى مسلم عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة، فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، ثم قال: إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلَظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: ((يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وإني إن أعِشْ أَقْضِ فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القُرْآن، ومن لا يقرأ القُرْآن))؛ (مسلم حديث: 1617).
في هذا الحديث دل النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على موضع تلك الآية من سورة النساء، وهي قوله سبحانه: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ﴾ [النساء: 176].
ترتيب سور القُرْآن:
معنى السورة:
السورة في اللغة: المنزلة والشرف.
السورة في الشرع:
طائفة مستقلة من آيات القُرْآن، ذات مطلع ومقطع،وهي مأخوذة من سور المدينة؛وذلك لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة، وآية بجانب آية، كالسور توضع كل لبِنة فيه بجانب لبِنة، ويقام كل صف منه على صف؛ (مناهل العرفان في علوم القُرْآن للزرقاني جـ 1 صـ 350).
ترتيب سور القُرْآن كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، كترتيب الآيات، وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم،والدليل: أن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان بن عفان ولم يخالف منهم أحد،وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف؛ لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم،لكنهم لم يتمسكوا بها، بل عدَلوا عنها وعن ترتيبهم، وعدلوا عن مصاحفهم، وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعًا؛ (مناهل العرفان في علوم القُرْآن للزرقاني جـ 1 صـ 354).
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن مِن العِتاق الأُوَل، وهن من تِلادي؛ (أي: مِن محفوظاتي القديمة)؛ (البخاري حديث: 4739).
• العِتاق: جمع عتيق، وهو القديم، أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة.
ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القُرْآن، وأن لهن فضلًا؛ لِما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 8 ـ240).
في هذا الحديث ذكر ابن مسعود رضي الله عنه هذه السور مرتبةً كما استقر ترتيبها.
أقوال العلماء:
(1) قال أبو بكر بن الأنباري (رحمه الله): أنزل الله القُرْآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرق في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر، ويقف جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورةً أو أخَّرها فقد أفسد نظم الآيات؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 260).
(2) قال الكرماني (رحمه الله): ترتيب السور هكذا هو عند الله وفي اللوح المحفوظ، وهو على هذا الترتيب كان يعرض عليه السلام على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 259).
(3) قال الإمام السيوطي (رحمه الله): كان آخر الآيات نزولًا: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، فأمره جبريلُ أن يضعها بين آيتي الرِّبا والدَّين؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 177).
(4) قال الطيبي (رحمه الله): أنزل القُرْآن أولًا جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرَّقًا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 177).
(5) قال أبو جعفر النحاس (رحمه الله): المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورُوِي ذلك عن علي بن أبي طالب؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 258).
روى أحمدُ عن واثلةَ بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أُعطيت مكان التوراة السبعَ، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلت بالمفصَّل))؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 28 صـ 188 حديث: 16981).
(6) قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القُرْآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مؤلَّف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد؛ لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القُرْآن، وفيه أيضًا دليل على أن سورة الأنفال سورة على حِدَة، وليست من براءة؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 258).
(7) قال الإمام الزركشي (رحمه الله): لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم:
أحدها: بحسب الحروف، كما في الحواميم.
وثانيها: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها؛ كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة.
وثالثها: للوزن في اللفظ؛ كآخر تبَّتْ وأول الإخلاص.
ورابعها: لمشابهة جملة السورة لجمله الأخرى؛ مثل: (والضحى)، و: (ألم نشرح)؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 260).
(
قال السيوطي: مما يدل على أنه توقيفي: كون الحواميم رتبت ولاءً، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، بل فصل بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء وطسم القصص بطس مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لذكرت المسبحات ولاءً، وأُخِّرت طس عن القصص؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 1 صـ 179).
تقسيم سور القُرْآن من حيث طولها:
قسَّم العلماء القُرْآن العزيز أربعة أقسام، وهي: الطوال، والمِئُون، والمثاني، والمفصَّل.
أولًا: الطوال: سبع سور، وهي:
البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، فهذه ستة، واختلفوا في السابعة، أهي الأنفال وبراءة معًا؛ لعدم الفصل بينهما بالبسملة، أم هي سورة يونس؟!
وسميت طوالًا؛ لطولها، وحُكي عن سعيد بن جبير أنه عد السبع الطول: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس.
ثانيًا: المِئُون: وهي السور التي تزيد آياتها على مائة آية، أو تقاربها.
ثالثًا: المثاني: وهي السور التي تلي المِئين في عدد الآيات،أو هي السور التي عدد آياتها أقل من مائة آية، وسميت مثانيَ؛ لأنها تثنَّى؛ أي تكرر في التلاوة أكثر مما تكرر السور الطوال والمِئون.
رابعًا: المفصَّل: هو أواخر القُرْآن: سمي بذلك؛ لكثرة الفصل بين السور بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه؛ ولهذا يسمى بالمحكَم، ويبدأ من سورة (ق).
والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط وقصار؛فطواله من أول ق إلى سورة البروج،وأوساطه من سورة الطارق إلى سورة: ﴿ لَمْ يَكُنِ ﴾ [البينة: 1]،وقصاره من سورة: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾ [الزلزلة: 1] إلى آخر القُرْآن؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 245: 244)، (مناهل العرفان في علوم القُرْآن للزرقاني جـ 1 صـ 352).
بداية سور القُرْآن:
إن الله افتتح سور القُرْآن بعشرة أنواع من الكلام، لا يخرج شيء من السور عنها:
الأول: الاستفتاح بالثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح، ونفيٌ وتنزيه من صفات النقص.
أولًا: الثناء والتحميد في خمس سور، وهي:
(1) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].
(2) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].
(3) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1].
(4) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1].
(5) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1].
وتبارك في سورتين:
(1) ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
(2) ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1].
ثانيًا: النفي والتنزيه من صفات النقص، وذلك بالتسبيح في سبع سور، وهي:
(1) ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحديد: 1].
(2) ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 1].
(3) ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الصف: 1].
(4) ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].
(5) ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
(6) ﴿ سَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].
(7) ﴿ سَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1].
الثاني: الاستفتاح بحروف التهجي: وهي في القُرْآن في تسعة وعشرين سورةً، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفًا، يجمعها قولك: (نص حكيم قاطع له سر).
فائدة:
كل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه، مشتملة على خلق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر، فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 168).
الثالث: الاستفتاح بالنداء في عشر سور: خمس بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم: الأحزاب والطلاق والتحريم والمزمل والمدثر،وخمس بنداء الأمة: النساء والمائدة والحج والحجرات والممتحنة.
الرابع: الاستفتاح بالجمل الخبرية في ثلاث وعشرين سورة، وهي: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1]، ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1]، ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1]، ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ [النور: 1]، ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الزمر: 1]، ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 1]، ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]، {قَدْ﴿ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1]، ﴿ الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1]، ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ [المعارج: 1]، ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ [نوح: 1]، ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 1]، ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1]، ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ [عبس: 1]، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 1]، ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة: 1]، ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1].
الخامس: الاستفتاح بالقَسَم في خمس عشرة سورةً، وهي: سورة أقسم فيها بالملائكة وهي ﴿ وَالصَّافَّاتِ ﴾ [الصافات: 1] وسورتان بالأفلاك البروج والطارق، وست سور بلوازمها؛ فالنجم قسم بالثريا والفجر بمبدأ النهار والشمس بآية النهار والليل بشطر الزمان والضحى بشطر النهار والعصر بالشطر الآخر أو بجملة الزمان، وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر: والذاريات، والمرسلات، وسورة بالتربة التي هي منها أيضًا، وهي: الطور، وسورة بالنبات، وهي: والتين، وسورة بالحيوان الناطق، وهي: والنازعات، وسورة بالبهيم، وهي: والعاديات.
السادس: الاستفتاح بالشرط في سبع سور، وهي: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [الواقعة: 1]، ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [ ﴾ المنافقون: 1]، ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾ [الزلزلة: 1]، ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1].
السابع: الاستفتاح بالأمر في ست سور، وهي: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾ [الجن: 1]، ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1]، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1].
الثامن: الاستفتاح بالاستفهام في خمس سور: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [النبأ: 1]، ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [الفيل: 1]، ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾ [الماعون: 1].
التاسع: الاستفتاح بالدعاء في ثلاث، وهي: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1]، ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾﴿ ﴾ [الهمزة: 1]، ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1].
العاشر: الاستفتاح بالتعليل في موضع واحد، نحو: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴾ [قريش: 1]؛ (البرهان في علوم القُرْآن للزركشي جـ 1 صـ 181: 164)، (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 3 صـ 317: 316).
خواتم سور القُرْآن:
خواتم سور القُرْآن الكريم هي أيضًا مثل فواتح السور في الحسن؛ لأنها آخر ما يقرع الأسماع؛ فلهذا جاءت متضمنةً للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى يبقى معه للنفوس تشوق إلى ما يذكر بعد؛ لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد ووعيد، إلى غير ذلك؛ كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة؛ إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي المسببة لغضب الله والضلال، ففصل جملة ذلك بقوله: ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، والمراد المؤمنون؛ ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده؛ ليتناول كل إنعام؛ لأن من أنعم الله عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة؛ لأنها مستتبعة لجميع النعم، ثم وصفهم بقوله: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، يعني أنهم جمعوا بين النعم المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال، المسببين عن معاصيه وتعدِّي حدوده.
وكالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة.
وكالوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200].
والفرائض التي خُتمت بها سورة النساء، وحسن الختم بها؛ لِما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي، ولأنها آخر ما أنزل من الأحكام.
وكالتبجيل والتعظيم الذي ختمت به المائدة.
وكالوعد والوعيد الذي ختمت به الأنعام.
وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي خُتمت به الأعراف.
وكالحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختم به الأنفال.
وكوصف الرسول ومدحه والتهليل الذي ختمت به براءة.
وتسليته عليه الصلاة والسلام الذي ختمت به يونس، ومثلها خاتمة هود، ووصف القُرْآن ومدحه الذي ختم به يوسف، والوعيد والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد.
ومن أوضح ما آذن بالختام خاتمة إبراهيم: ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ﴾ [إبراهيم: 52] الآية، ومثلها خاتمة الأحقاف، وكذا خاتمة الحِجْر بقوله: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، وهو مفسَّر بالموت، فإنها في غاية البراعة.
وانظر إلى سورة الزلزلة كيف بُدِئت بأهوال القيامة، وختمت بقوله: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
وانظر براعة آخر آية نزلت، وهي قوله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، وما فيها من الإشعار بالآخرية المستلزمة للوفاة.
وكذلك آخر سورة نزلت، وهي سورة النصر، فيها الإشعار بالوفاة؛ (الإتقان في علوم القُرْآن للسيوطي جـ 3 صـ 321: 320).
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمرُ يُدخلني مع أشياخ بَدْر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم،قال: وما رئيته دعاني يومئذ إلا ليريَهم مني، فقال: ما تقولون في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾ [النصر: 1، 2] حتى ختم السورة؟! فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمَدَ الله ونستغفره إذا نصَرَنا وفتَحَ علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو: لم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا بن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا،قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له؛ ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] فتح مكة، فذاك علامةُ أجلك؛ ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3] قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم؛ (البخاري حديث: 4294).
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذُخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم،وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
المصدر:
الالوكة
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩