تلحين الأذان وتطريبه تركي حماد السفياني
تلحين الأذان وتطريبه
تركي حماد السفياني
تلحين الأذان وتطريبه
تمهيد:
التلحين في اللغة: من اللحن، ويأتي على ستة معان هي: الخطأ في الإعراب، والخطأ في اللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى[1].
والمعنى الذي نريده هنا هو الغناء، أو التغني.
فالأذان الملحن الذي فيه تطريب، ولحن في قراءته إذا طرب بها وغرد[2].
ومثله التطريب، من الطرب: خِفة تصيب الإنسان لشدة حزنٍ أو سرور[3]، يقال: طرِب فلان في غنائه إذا رجَّع صوتَه وزيَّنه، وطرِب في قراءته: مدَّ ورجَّع[4]، والتطريب في الصوت: مدُّه وتحسينُه[5].
وأما تلحين الأذان أو تطريبه في اصطلاح الفقهاء، فالذي ظهر لي بعد تأمل كلام الفقهاء أن
تلحين الأذان نوعان:
الأول: تلحين مشروع.
الثاني: تلحين ممنوع.
ولم أرَ في الحقيقة من نص على هذا التقسيم، أو نص على وجود تلحين مشروع في الأذان، بل جرت عادة الفقهاء - من المتقدمين والمتأخرين والباحثين المعاصرين - بإطلاق القول بمنع التلحين في الأذان من غير تفصيل، ولكني بعد تأمُّل دقيق لكلامهم تبيَّن لي أنهم لا يقصدون ذم كل تلحين للأذان، بل إن هناك تلحينًا مشروعًا أيضًا، وإن شئت فقل: غير مذموم، والذي جعلني أقول هذا عدة أوجه:
الوجه الأول: أن من مقتضيات الأمر برفع الصوت في الأذان مع تحسينه[6]: أن يكون ملحنًا، فإن رفع الصوت مجردًا بدون تلحين يسلب منه صفة الحسن والجمال غالبًا، وهذا معلوم من واقع الناس عند مناداتهم لبعض، والأذان نداء.
الوجه الثاني: أن بعض الفقهاء نص على أن "التغني (بالأذان) بلا تغيير حسنٌ"[7].
الوجه الثالث: أن بعض العلماء صرَّحوا بأنه ينبغي أن يكون صوت المؤذن "بتحزين، وترقيق"[8]، وهذان من مقتضيات التلحين؛ إذ كيف للمؤذن أن يحزن في أذانه، أو يرقق بغير تلحين؟
ومثله:
الوجه الرابع: أن بعضهم صرح أيضًا بأن المستحب في المؤذن "أن يكون حسن الصوت، ومرتفع الصوت، وأن يرجع صوته"[9].
الوجه الخامس: أن بعض العلماء يجعل اللحن الممنوع هو التمطيط، والتمديد الزائد، اللذان يحصلان غالبًا بسبب التلحين، وقد عرف بعضهم التطريب بأنه "مد المقصور، وقصر الممدود"[10]، وقال غيره: "اللحن في القرآن والأذان هو التطويل فيما يقصر، والقصر فيما يطال"[11]، فهذا يدل على المبالغة في التطريب المؤدية إلى هذا الطول والقصر؛ لأنه ليس كل تطريب ينتج عنه هذا.
ولذا جاءت تعبيراتهم قريبة من هذا المعنى، فمن تعبيراتهم:
ويكره في ذلك ما فيه غلظة، أو فظاعة، أو تكلُّف زيادة[12].
ولا يبالغ في المد، بل يكون عدلًا[13].
التمديد الزائد عن المطلوب في الأذان ما ينبغي[14].
الوجه السادس: أن المانعين من التلحين عللوا المنع بأنه يخرج الأذان عن حد الإفهام[15]، فلا يفهم من ألفاظ الأذان إلا أصوات ترتفع وتنخفض[16]، والواقع أنه ليس كل تلحين يؤول إلى ذلك، وإنما ما فيه مبالغة وتمطيط، وتمديد في غير موضعه، والله أعلم[17].
فتبيَّن أن الفقهاء حين يذمون التلحين مطلقًا، إنما يقصدون تلحينًا معينًا كما سيأتي، ولا يريدون بذلك كلَّ تلحين!
ولعل سبب إطلاقهم الذم بلا تفصيل أن التلحين المذموم هو المنتشر واقعًا، فلم يفصلوا؛ لأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، كما هو منتشر في زماننا والله المستعان.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن أقرب مسألة شبهًا بـ ((تلحين الأذان)) هي: مسألة التغني بالقرآن. وقد ذكر هذا التقارب بين الأذان والقرآن غير واحد من أهل العلم[18].
قال ابن رجب رحمه الله: ((والقول في الأذان بالتطريب، كالقول في قراءة القرآن بالتلحين))[19]، يعني أن حكم تلحين الأذان، كحكم تلحين القرآن، ومعلوم أنه ليس كل تلحين للقرآن مذمومًا.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر اختلاف السلف في جواز قراءة القرآن بالتغني والتطريب، أو منعها، ((وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغني على وجهين:
️أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلُّف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين؛ كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: "لَو علمتُ أنكَ تَسمَع لَحَبرْتُه لَكَ تحبِيرًا"، والحزين، ومَن هاجه الطرب، والحب، والشوق، لا يملك من نفسه دفعَ التحزين، والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
️الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلف وتصنع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على مَن قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعًا أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقا المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها، ويُسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجى تارة، وبِطَرب تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "لَيْسَ مِنا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقرآنِ"، وفيه وجهـان: أحـدهما: أنه إخبـار بالواقـع الذي كلنا نفعـله، والثاني: أنه نفـي لهـدي مَن لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم))[20].
وعليه فليس كل تلحين للأذن ممنوعًا، وإنما يدخله التفصيل الوارد في تلحين القرآن.
وبعد أن بينا أن تلحين الأذان ينقسم إلى قسمين، يمكن أن نعرف كلًّا منهما بالآتي:
1- التلحين المشروع: هو التغني بالأذان على ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به، من غير تكلف، ومن غير تغيير لكلمات الأذان، أو حروفه، بزيادة، أو نقص.
2- التلحين الممنوع: هو التغني الذي يكون صناعة من الصنائع، مركبًا على إيقاعات مخصوصة، لا يحصل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن.
أو التغني الذي يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان، وكيفياتها، بالحركات، والسكنات، أو نقص بعض حروفها، أو زيادة فيها[21].
والثاني هو المراد في هذا البحث.
🟩تصوير المسألة:
التلحين المذموم ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان على ألحان الموسيقا المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محددة.
الثاني: ما أدى إلى تغيير في ألفاظ الأذان، وهذا نوعان:
أولهما: ما أدى إلى تغيير يحيل المعنى.
ثانيهما: ما أدى إلى تغيير لا يحيل المعنى.
️تحرير محل النزاع:
أجمع العلماء على تحريم إيقاع الأذان على نغم ألحان الموسيقا المتكلفـة[22]، كمـا اتفق الفقهاء على تحريم تلحين الأذان إذا صاحبه تغيير يحيل المعنى[23]، وأما إذا لم يُحل المعنى، فقد اختلفوا هل يكره أو يحرم؟ بعد اتفاقهم على عدم المشروعية[24].
من نص على البدعية:
نص على البدعية إسحاق بن راهويه[25]، بقوله: (التطريب بالأذان: بدعة)[26].
وقال ابن مودود الموصلي الحنفي[27]: (ويُكره التلحين في الأذان لأنه بدعة)[28].
وقال ابن الحاج المالكي[29]: ((وليحذر في نفسه أن يؤذن بالألحان، وينهى غيره عما أحدثوه فيه مما يشبه الغناء... وهي بدعة مستهجنة... إلى أن قال: وهذا الأذان هو المعمول به في الشام في هذا الزمان وهي بدعة قبيحة))[30].
🟩أقوال العلماء في المسألة:
اختلف العلماء في حكم تلحين الأذان، إذا صاحبه تغييرًا لألفاظ الأذان، أو حروفه، أو حركاته، على قولين؛ هما:
القول الأول: يكره تلحين الأذان ما لم يُحِلِ المعنى، وإلا حرم، وهو رأي الجمهور من الحنفية[31]، والمالكية[32]، والشافعية[33]، والصحيح عند الحنابلة[34].
القول الثاني: يحرم تلحين الأذان وتطريبه بمجرد تغيير شيء فيه، سواء أحال المعنى أم لا، وهو وجه عند الحنابلة[35].
🟩الأدلة مع المناقشة:
🟢أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
الدليل الأول: أن هذا التلحين المُغير لألفاظ الأذان، أو حروفه، لم يكن عليه السلف، وإنما أُحدث بعدهم[36].
🟢الدليل الثاني: ما جاء عن السلف من النهي عن ذلك، كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلًا قال له: يا أبا عبدالرحمن، إني لأحبك في الله، فقال ابن عمر: لكني أبغضك في الله، فكأن أصحاب ابن عمر لاموه وكلموه، فقال: إنه يبغي في أذانه، ويأخذ عنه أجرًا[37].
وقال عمر بن عبدالعزيز[38] - لمن طرب في أذانه -: أذن أذانًا سمحًا وإلَّا فاعتزلنا[39].
🟢الدليل الثالث: أن تلحين الأذان بتمطيط، وتمديد، وتغيير ينافي الخشوع، والوقار، وينحو بالأذان إلى الغناء[40].
وهذا كله محمول عند الجمهور على الكراهة؛ لأن المقصود بالأذان حاصل؛ حيث لم يتغير معناه، أما إذا تغير المعنى، فإنه يحرم حينئذ باتفاق؛ لأن المقصود بالأذان النداءُ إلى الصلاة، فلا بد من تفهيم ألفاظه للسامع، وهذا الأذان لا يفهم منه شيء[41].
🟢أدلة القول الثاني:
واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بتحريم تلحين الأذان المؤدي إلى تغيير ألفاظه - سواء أحال المعنى أم لا - بأن الآثار المتقدمة تُحمل على التحريم بمجرد تغيير ألفاظ الأذان، كما لو تغير المعنى.
ويُناقَش بأن هناك فرقًا بين التغيير الذي يُحيل المعنى، والذي لا يحيله، فالأول يُخرِج الأذان عن مقصوده، وهو إعلام السامعين وإفهامهم، والثاني لا يخرجه عن مقصوده، والله أعلم.
🟢الترجيح:
الصواب في هذه المسألة قول الجمهور، وهو أن التلحين الذي يؤدي إلى تغيير ألفاظ الأذان مكروه؛ لأن مقصود الأذان باق، إلا إذا تغير معه المعنى، فإنه يحرم حينئذ باتفاق، بل هو بدعة.
ثمرة الخلاف:
أصحاب القول الأول - وهم الجمهور - يرون صحة أذان من طرب في أذانه تطريبًا ممنوعا - ما لم يتغير المعنى - مع كراهته؛ لأن المقصود من الأذان حاصل، وهو الإعلام.
وأصحاب القول الثاني يرون أن الأذان لا يصح مع أي تغير في ألفاظ الأذان؛ تغيَّر المعنى أم لم يتغير[42].
وخلاصة هذه المسألة:
أن تلحين الأذان ينقسم إلى قسمين:
الأول: تلحين مشروع: وهو ما كان سجية من غير تكلف، وبدون تغيير شيء من ألفاظه.
الثاني: تلحين ممنوع، وهو نوعان:
النوع الأول: ما كان على نغم الألحان الموسيقية، فمحرم بإجماع.
النوع الثاني: ما كان فيه تغيير لألفاظه، أو حروفه، أو حركاته، فلا يخلو هذا التغيير من حالين:
1- تغيير يحيل المعنى، فمحرم باتفاق.
2- تغيير لا يحيل المعنى، فمكروه على الصحيح.