بَصَلَة الشافعي وبَوصَلة طالب العلم
يحدّث عن تجربته أنه : أرد أن يكون له إلى جوار طلب العلم مهنة يعيش منها ويوسع على نفسه وعياله وظن بنفسه خيرا - وهي بيت الشر - فزينت له : أن في الوقت متسع, وفي الهمة علو, وفي التخطيط مفازا
ويمكنه بسهولة الجمع بين رغد العيش ولذة الطلب وبلوغ الأرب فيه.
ولكن هيهات فقد صدق السابق حين قال : لا يُنال العلم براحة الجسم؛ لكن هي الأماني.
ومما ذكر : أنه لولا لطف الله وحفظه له لكان في عداد العوام الذين يسألون عن أوضح الواضحات وأسهل المشكلات بل - والله - لقد عجز عن الجواب عن مسائل يذكر أنّه جمعها وحررها ودرسها كما يقول .
ولهذا فلا ولن يكون مع العلم مزاحم إذا أرد طالبه أن يكون فيه مُتمكّنا ولعلوه مُحصّلا وبين أهله مرجعا وله على الحقيقة حاملا.
فإذا رُزق طالب العلم عملا ومصدر رزق يربطه بالعلم تعلّما وتعليما وتحريرا فهو النعيم المقيم والفوز العظيم إن كان محبا للعلم صادقا في الطلب.
أما أن يبحث طالب العلم عن مهنة خارج العلم والتعليم ظانا بنفسه خيرا وبأنه سيكون جامعا بينهما وموازنا في السير معهما فقد غامر بعلمه وقامر بعمره وغالط نفسه.
فلا يكون - والله - خاصة في هذا الزمان طلب علم ووظيفة في غير العلم والتعليم تأخذ من وقته ما بين ست إلى ثمان ساعات يوميا تذهب فيها قوته ويضيق عطنه وتضعف همته ويتشتت جهده وأشد منها أن يكون طالب العلم تاجرا مباشرا لتجارته متابعا لسوقها مهتما بتفاصيلها فإنه وإن حضر مجالس العلم فقلبه هناك وعقله في سجلات المعاملات وأخبار الصفقات والمشتريات.
فجدير بمن فتح الله عليه بابًا في طلب العلم الشرعي, وهيأ له سببا إليه, وأُعطي فرصة يتفرغ فيها لطلب العلم جدير به أن يجعلها هويته ووظيفته ومصدر عيشه على أن يرضى بما تيسر من العيش ويحمل شعار القناعة وقانون الكفاف وقاعدة الصبر ثم الصبر ثم الصبر؛ فإنْ فُتح له من باب العلم باب رزق ومصدر دخل وعيش وجمع الله له بين الحسنيين فليتقِ الله فيه وليعلم أنه جمع له بين خيري الدنيا والآخرة إذا صلحت نيته وأَعطى العلمَ حقه.
وإن ضُيّق عليه رزقه وقُدر عليه فيه فلا يمدّن عينيه لما لم يتمكن منه إذا أراد فعلا أن يأخذ من العلم أوفر نصيب وأن يكون فيه رأسا بل الحقيقة إذا أراد أن يبقى في قافلة طلاب العلم حقا وصدقا.
وأما من كانت تجارته مضاربة يأتيه خيرها ويسلم من شرها وشغلها وهواجسها ووساوسها فهذا ضرب آخر وفضل الله يؤتيه من يشاء .
لكن الذي من يريد التجارة ابتداء ومن أهدافه في الحياة أن يكون صاحب ثراء وعيش رغيد فلا يخدع نفسه ويقضي من عمره سنوات في الانتساب لقافلة طلاب العلم وهو أصلا مقرر مسبقا ومقتنع قبلا أنه لن يستمر وأنه سيعود إلى سوق العمل وطريق الربح وتنافس المال وحلاوة الدنيا.
فهذا لا يتأخر وليختصر على نفسه الطريق وليكن نعم العبد الصالح يتقي الله فما أعطاه إن حقق هدفه
أما أن يبقى سنوات في طريق ثم يستيقظ فجأة يندب حظه ويبكي سنين قضاها دون فائدة ولا مردود مالي فلا يلومن إلا نفسه.
وأي خسارة أن يقضي سنين في مسلك العلم وحلمه وأفكاره في الاستثمار وتخطيطه في سلسلة مطاعم أو وكالات تجارية عالمية أو رحلات مكوكية لصفقات واتفاقات تجارية, ثم إذا ما راجع مسيرته يرمي عجزه ويلقي لومه على العلم وسنين قضاها فيه .
فلو أنه اجتهد في سنين الطلب وأعطى الأمر حقه لكان أخف على نفسه وعلى من ظن به خيرا أن يخرج بحصيلة علمية تميزه, أما لا علم ولا مال وعاش يلهيه الأمل ويمنيه طول الأجل فعلى نفسها جنت براقش.
وممّا يذكر عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : ( لو كُلِّفتُ شراء بصلة لِما فهمتُ مسألة )[1] وهو من عباقرة العالم ولا زالت كتبه وأفكاره مؤثرة إلى اليوم, فلا يمنعه أن يشتري بصلة إلا أن ذهنه سينشغل بها؛ وجزء من وقته سيصرف لأجلها؛ وتفكيره سيخرج قليلا عن العلم ومسائله, وإلا فالشافعي أكبر من أن يمنعه من شراء البصلة قلة حيلته وضعف تصرفه وصعوبة بيعه وشراء كيف وهو صاحب الرسالة والأم.
لكن هذي هي سنة طلب العلم وطريقه لمن يبتغي فيه موقعا ورقما وأن يكون عونا على نشره وبثه لا عالة عليه يوسم بوسمه ويتزين بزينته ويدون في ديوان أهله وهو مشغول بغيره ثم إذا ما جاع يوما أو احتاج ناح على سنين عمره التي بذلها في العلم ومع أهله.
فلا ورب البيت لا يستقيم أن تنسب لطلاب العلم وتسجل في عدادهم وداخلك يصرخ يريدك في مجالس التجار ومواقع الأسواق وقائمة أصحاب الأرقام.
فإما أن تستجيب لداخلك أو تقنعه وتغلق عليه بابه.
ولذلك مما عدوه في آداب طالب العلم في نفسه : "أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيرًا، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خلقًا، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن مفترقات الآمال فتتفجر فيه ينابيع الحكم.
قال الشافعي رحمه الله: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح.
وقال مالك: لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضربه الفقر ويؤثره على كل شيء.
وقال أبو حنيفة: يُستعان على الفقه بجمع الهم، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزد.
فهذه أقوال هذه الأئمة الذين لهم فيه القدح المعلى غير مدافع، وكانت هذه أحوالهم رضي الله عنهم."[2]وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ... والحمد لله رب العالمين
نبيل بن عبد المجيد النشمي
-------------------------------------------
[1] ) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (ص: 36)
[2] ) السابق .
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩