الساعي على الأرملة والمسكين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "ملاطفة اليتيم، والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين" أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر[1]، متفق عليه.
الساعي على الأرملة والمسكين، الأرملة: هي المرأة التي لا عائل لها، أرملة مات زوجها، ليس لها أحد يقوم بشئونها، فهي منكسرة، بحاجة إلى رعاية، هي ضعيفة، تحتاج إلى من يقوم على شئونها ومصالحها، ومن ينفق عليها، فالساعي على الأرملة والمسكين ولو كان ذلك من غير ماله بمعنى أنه يقوم بشئونها، يذهب يراجع عنها في معاملاتها، يذهب يتابع لها مصالحها، يكلم لها بعض من يحسن إليها، فيعطيها شيئاً من نفقة ونحو ذلك فهذا يصدق عليه أنه ساعٍ على الأرملة واليتيم، يعني لا يشترط أن يكون ذلك صاحب مال فينفق من ماله، إذا أنفق من ماله فهذا لا شك أنه أكمل، ولكن يصدق على هذا أنه ساعٍ وإن كان بمال غيره، والنبي ﷺ أخبر أنه يدخل في السهم الواحد الجنة ثلاثة، ففضل الله -تبارك وتعالى- واسع، فهذا لا يختص بالأغنياء وأهل اليسار.
قال: كالمجاهد في سبيل الله، وهذه مرتبة عالية جدًّا، قال: وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر لا يستريح، ولا ينقطع، ولا يتوقف يصلي الليل.
وقوله: والصائم الذي لا يفطر من الذي يستطيع؟ الناس في صيام الستة من شوال يسألون كثيراً، بالذات النساء، هل يمكن أن يُجعل القضاء مع صيام الستة صياماً واحداً؟، فهذه الستة عندهم -عند كثير من الناس- تعتبر من التكاليف الصعبة الثقيلة الشاقة، عمل بسيط الساعي على الأرملة والمسكين أيضاً، إنسان ضعيف مسكين ما عنده شيء فيذهب هذا ويقضي له مصالحه، يأتي له بحاجاته، يأخذ أولاده ويذهب بهم يوصلهم إلى المدرسة، أو يوصلهم إلى المستشفى، أو يرتب له موعداً مع طبيب، أو يأتي له بمن يصلح ما فسد في داره، أو يسكنه في مكان، ولو دفع الإيجار إنسان آخر، لكن هذا هو المتولي لمصالحه، هذا هو الذي يرعاه ويهتم به، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر، فهذا يدل على أن الإنسان يمكن أن يبلغ بأعمال قليلة.
أفضلية الأعمال ذات النفع المتعدي
ومن هذه الأحاديث كالحديث السابق قول النبي ﷺ: كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة[2]، أخذ من ذلك العلماء أن جنس الأعمال المتعدية أفضل من جنس الأعمال القاصرة، وهذا معنى صحيح، يعني ما بعد الفرائض، فلا يترك الإنسان صلاة الفريضة، ويقول: والله أنا جالس أصلح حاجة في بيت اليتيم أو المسكين، لا، فالفرائض لا تترك، لكن ما زاد على الفرائض، فجنس الأعمال المتعدية أفضل من جنس الأعمال القاصرة، يعني أيهما أفضل يجلس الإنسان في المسجد يقرأ من المصحف، أو يذهب مع أخيه في حاجة يوصله بالسيارة أو يراجع معه مصلحة من المصالح له، أو يذهب به إلى المستشفى، أو يبحث له عن بيت يسكن فيه، أو يدله على مكان لا يعرفه؟، جاء إنسان ما يعرف البلد، فأخذه وذهب معه يسأل عن المكان الذي يريد، أو عن قرابته أو نحو هذا، هذا أفضل من بقائه في المسجد يقرأ القرآن، أو من صلاته النافلة، قد يسهر الإنسان وقد يبذل عملاً كثيراً في النهار في مصالح الفقراء، فإذا جاء الليل لا يستطيع أن يقوم، ويقول: أيهما أفضل لي قيام الليل أو صيام النهار، أو القيام على هؤلاء؟.
نقول: القيام على هؤلاء أفضل؛ لأنه نفع متعدٍّ، والنفع المتعدي أفضل من القاصر، ولهذا قال النبي ﷺ: لأنْ أسعى في حاجة أخي أحب إليّ من أن أعتكف في مسجدي شهراً[3]، فيحتاج الإنسان إلى فقه وموازنات في الأعمال الصالحة؛ لأن العمر قصير، وهذا العمر يستغرق أحياناً في المعاصي، ويستغرق في النوم، وأحياناً يستغرق في الغفلة، وأحياناً يستغرق في أعمال مفضولة، وكون الإنسان يجلس على مصحفه هذا عمل طيب، لكن هناك أعمال أفضل من هذا، ولا يترك حظه من القرآن أيضاً، وبعض الناس يرى أن هذا تضييع للوقت، ولربما يحزن يقول: ضاع وقتي وأنا ذاهب مع فلان، ما عنده سيارة، وقال: تعال معي نريد أن نبحث عن بيت للإيجار، وضيعتُ العصر والمغرب والعشاء، ولم أستفد، لا، أنت استفدت من الوقت استفادة عظيمة جدًّا، هذا خير لك من الاعتكاف شهراً كاملاً في المسجد، لكن نحن في كثير من الأحيان ما عندنا فقه في التعامل مع الأعمال على قصر الأعمار، فيحتاج العبد إلى هذا اللون من النظر؛ من أجل أن يستثمر هذا العمر في أجلّ الأشياء وأفضلها التي تبلغه أعلى المنازل.
الآن التجارات الإنسان إذا أراد أن يدخل في تجارة أسهم -وإن كان الناس الآن لا يحبون ذكر الأسهم، لكن من باب تقريب المعنى- يبحث عن الأشياء التي هي أكثر ربحاً، ما هي التجارات، ما هي الأعمال التي أرباحها عالية؟ لا يأتي ويساهم في شركة الأرباح فيها -بعد أربعة أشهر أو خمسة أشهر- ريال، وإنما يبحث عن الأعمال التي ترتفع فيها نسبة الربح، هكذا الأعمال الصالحة، الإنسان في تجارة مع الله إذا أراد أن يبني مسجدًا يبحث عن المكان المكتظ، المكان الذي يجد فيه ناسًا كثيرين يصلون بحيث إنه كلما دخل واحد هذه الخطى مكتوبة تسجل في رصيد ذلك الإنسان الذي بناه، غير الذي يبني مسجدًا في صحراء، كلهم يحصل على الأجر من بنى لله مسجداً ولو كمِفحَص قطاة..[4]، لكن كم من الأجور التي تنتج بسبب كثرة هؤلاء المصلين الذاكرين التالين، وقل مثل هذا في أعمالنا التي نقضيها في اليوم والليلة، فلو أن الإنسان وضع لنفسه شيئاً في هذه الحياة، لآخرته، يكفل أرملة، يكفل يتيمًا، يسعى على فقير، ابحث لك عن فقير، تجارة مع الله ، إنسان ضعيف وقل: أنا أريد أن أصل به إلى الله ، إلى الدرجات العلى، يا فلان هذا رقمي، تتفقده، تتصل عليه، ماذا تحتاج؟ ماذا ينقصك؟ ما عندك سيارة أنا أوصلك، اتصل متى ما أردت، هذا السائق موجود، أي حاجة تريدها أنت المحسن إلينا، بعض الناس يقول: أنا لست مسئولاً عن ولد آدم.
نقول: لا، أنت تعمل لنفسك، هذا الفقير، هذا المسكين، هذه الأرملة هي مجال المساهمة والتجارة ذات الأرباح العالية التي توصلك عند الله ، فتُقدم لآخرتك.
نحن في كثير من الأحيان ننظر للعمل على أنه خدمة للآخرين فقط، فنستثقله أحياناً، نقول: نحن ماذا استفدنا؟ ضاعت علينا الأوقات، وهي لم تضع، فالأوقات تبذل لمثل هذا، لكن سوء النظر، قلة الفقه يجعل الإنسان يضيّع كثيراً من الفرص، وتجد الإنسان يموت وما عمره كفل يتيمًا، ولا كفل أرملة، ولا يقضي حاجة لأحد، كل شيء بمقابل، والله المستعان، نفسي، نفسي.
وهذا الحديث أيضاً يدل على قضية التكافل التي عُني بها الإسلام، فالأرملة لا تضيع، المسكين لا يضيع، يجدون من يتسابق على مصالحهم، وكلما كانت نزعة المجتمع مادية كلما كان هذا أدعى لضياع هؤلاء الضعفاء، والابتزاز، الذي ما عنده مال يُبتز، المرأة تبتز بعرضها، كما هو موجود في كثير من البلدان الذين لا يعرفون الله ، ما عندها مال تقوم بمصالحها وتدفع، تبتز بالعرض، ينتهك عرضها ويستغل ضعفها وحاجتها، ويستمتع بها من أجل أن يقضى لها، وُجدت امرأة شريفة تبيع عرضها، فوجدها بعض الدعاة، فسألوها عن هذا، وقالوا لها: أنت من أسرة معروفة، كيف تفعلين هذا؟ فقالت: تعالوا، وذهبت بهم إلى بيتها، فوجدوا هذا البيت ليس فيه شيء من الآلات، لا ثلاجة ولا فرن ولا أدوات طبخ ولا شيء، ولا أبواب، وكثير من النوافذ منزوعة، فسألوها عن هذا، قالت: أبو هؤلاء الأطفال قتل من سنين، وبقيت أنا التي أعولهم، فكلما رأيت حرارة الطفل مرتفعة ويتلوى من المرض أمامي لا أطيق، أتمنى الموت، لا أحتمل أن ولدي يموت أمامي، ففي كل مرة أبيع شيئًا، بعت الثلاجة من أجل أن أذهب به إلى الطبيب، بعت الغسالة، بعت الفرن، بعت كل شيء، بعت الأثاث، ثم بعد ذلك صرت أبيع الأبواب من أجل أن أشتري دواء ثم لم يبقَ عندي شيء حتى بعت عرضي، هذا في بلد مجاور، في العراق، قبل هذه الحرب، أيام الحصار الذي ضُرب عليهم، فانظر كيف تستغل، ولذلك القائم على الأرملة واليتيم، مات زوجها لا تضيع، غاب لا تضيع، تبقى محفوظة، الإنسان أكثر شيء يقلق عليه أطفاله وزوجته، ويحمل همهم، كيف سيكون مصيرهم، كيف سيكون مستقبلهم؟ فمثل هؤلاء الله أوصى وأمر وحث ورغب في العناية بهم، من أجل أن يعيشوا حياة كريمة، لا يستغل هذا الطفل.
ويوجد في بعض البلاد من يبيعون أطفالهم، الطفل لربما يباع بعشرة آلاف دولار، بل بأقل من هذا، وُجد بثلاثة آلاف دولار، يبيعون أطفالهم، ما عندهم شيء، ووجد من لا يبيعونهم، لكن يقولون: خذوهم عندكم، نحن نثق بكم، ربوهم، علموهم، اذهبوا بهم، أطفال صغار، تصور طفلك هل تعطيه أحدًا وتقول: خذه إلى بلاد بعيدة آلاف الأميال، اذهب به تربيه
يوجد في بعض البلاد من يبيعون أطفالهم، الطفل لربما يباع بعشرة آلاف دولار، بل بأقل من هذا، وُجد بثلاثة آلاف دولار، يبيعون أطفالهم، ما عندهم شيء، ووجد من لا يبيعونهم، لكن يقولون: خذوهم عندكم، نحن نثق بكم، ربوهم، علموهم، اذهبوا بهم، أطفال صغار، تصور طفلك هل تعطيه أحدًا وتقول: خذه إلى بلاد بعيدة آلاف الأميال، اذهب به تربيه، هذا مقطوع من قلب الإنسان، ما يقول هذا الكلام إلا بعد أن رأى الويلات، لا يسد جوعته.
فأقول: هذه معانٍ نحتاج أن نعتني بها، ونشعر بها، ولا يكون هم الإنسان فقط نفسه، ومصالحه الشخصية، بل إن العناية الحقيقية بالنفس هي العناية بعمارة الآخرة، بل إن هذه الأعمال الخيرية المتعدية للآخرين هي من أعظم أسباب دفع البلاء عن الإنسان في الدنيا، والتوفيق والتسديد، يدفع عنه من الشرور ما لا يخطر له على بال، ويوفق ويبارك له في وقته وأولاده ورزقه وعمله، ويحصل له من انشراح الصدر ما لا يقادر قدره، لا يضيع شيء أبداً، إنما هو شيء يبذله الإنسان لنفسه، وهو من أكثر الأعمال التي يجد الإنسان نتيجتها العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، الذي يعيش للآخرين يعيش كبيراً، وهو من أشرح الناس صدراً، والله لا يضيعه أبداً، الذي يعيش لنفسه يعيش صغيرًا، ويموت صغيرً، مات واحد من هذه الملايين، ربما كثير من جيرانه ما يكتشفون أنه توفي إلا بعد شهور، لكن إذا مات إنسان كبير، نفعه متعدٍّ للناس مثل الشمس التي غابت، كل الناس يشعرون بأثره وغيابه وفقده، كم من الأسر التي كان يكفلها، كم من الأسر التي كان يرعاها، كم من الناس المحتاجين الذين كانوا يأتون إليه مكروبين، فهكذا ينبغي أن يكون الإنسان، كلٌّ بحسبه، لكن يكون له نفع متعدٍّ، لا تعش لنفسك، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الساعي على المسكين، برقم (6007)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، برقم (2982).
أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، برقم (2983).
أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (6026)، والكبير برقم (13646)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (176).
أخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد، باب ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه، برقم (1611)، وأحمد في المسند، برقم (2157)، وقال محققوه: "صحيح لغيره"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6128).
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩