من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم عند القبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجه ولزم سنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقوم عند مرور الجنازة، ويصليَ عليها، ويشيعها إلى قبرها، وكان صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحاب المقابر بالزيارة، وإلقاء السلام، والاستغفار لهم، ويسأل الله لهم الرحمة والتجاوز عنهم والتثبيت، ولرقة قلبه صلى الله عليه وسلم ربما بكى، وقد أمر أمته بالاستعاذة من عذاب القبر، والاستعداد له بالعمل الصالح، فكان هديه صلى الله عليه وسلم عند المقابر أفضل الهدي؛ يشتمل على إكرام الميت بما ينفعه في قبره والإحسان إليه، وتذكر الأحياء الآخرة؛ ومن ذلك:
إذا رأى الجنازة قام لها حتى تمر أو توضع عن أكتاف الرجال:
فعن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الجنازة، فقوموا لها حتى تُخلِّفكم أو تُوضع))[1]؛ قال ابن بطال: "قال المهلب: القيام للجنازة دلالة على التعظيم لأمر الموت، والإجلال لأمر الله؛ لأن الموت فزع؛ فيجب استقباله بالقيام له والجد"[2].
إذا خرج إلى المقابر سلَّم عليهم:
فعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون))[3]؛ قال القاضي عياض: "فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواءٌ في تقديم السلام على المسلم عليه"[4].
خير من وصف القبر:
فعن هانئ مولى عثمان قال: ((كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه، فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه))[5]؛ قال القاري: "ما رأيت منظرًا فظيعًا على حالة من أحوال الفظاعة قط إلا في حالة كون القبر أقبح منه، فالاستثناء مفرغ، وإنما كان أفظع؛ لأنه مقدمة العقاب، ونهاية التعلق بالمال والولد والأصحاب، وغاية الرجوع إلى موضع الذل والظلمة، والدهشة والحيرة، والوحشة والغربة، والدود والتراب، ومطالعة ملائكة العذاب، ومشاهدة الحساب، ومراقبة الحجاب، حيث لا ينفعه إلا رب الأرباب"[6]
إباحة زيارة القبور والبكاء على الميت:
فعن أبي هريرة قال: ((زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها، فلم يُؤذَن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأُذِن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تُذكِّر الموت))[7]، وفي الحديث دليل على "جواز زيارة القبور، وصلة الآباء المشركين، وإذا كان هذا بعد الموت، ففي الحياة أحق، وكأنه قصد عليه السلام قوةَ الموعظة والذكرى بمشاهدته قبرها ورؤيته مصرعها، وشُكْر الله على ما منَّ به عليه من الإسلام، وخصَّ قبرها لمكانها منه ... وبكاؤه عليه السلام على ما فاتها من لحاق أيامه والإيمان به"[8].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للقبر بالعمل الصالح؛ فعن البراء قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى، ثم قال: يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا))[9].
الدعاء للميت بإخلاص:
فعن عوف بن مالك قال: ((شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على رجلٍ من الأنصار، فسمعته يقول: اللهم صلِّ عليه واغفر له وارحمه، وعافِهِ واعفُ عنه، واغسله بماء وثلج وبَرَد، ونقِّهِ من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَسِ، وأبدله بداره خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وقِهِ فتنة القبر وعذاب النار، قال عوف: فلقد رأيتُني في مقامي ذلك أتمنى أن أكون ذلك الرجل))[10].
وعن عثمان بن عفان قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل))[11]؛ قال الشوكاني: "في الحديث مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه وسؤال التثبيت له؛ لأنه يُسأل في تلك الحال، وفيه دليل على ثبوت حياة القبر"[12].
من يدخل قبر المرأة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال: فقال: هل منكم رجلٌ لم يُقارِفِ الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل، قال: فنزل في قبرها))[13].
قال ابن الملقن: "لم يقارف: أي: لم يذنب، وقيل: لم يجامع أهله، وهو أظهر ... وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والأم، ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولي أن يُلحِدَ المرأة إذا عدم الولي، ولما كان صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولم يجزْ لأحدٍ التقدم بين يديه في شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1]، ولم يكن لعثمانَ أن يتقدم بين يديه في إلحاد زوجته، وفيه فضل عثمان وإيثاره الصدق، حين لم يدعْ تلك المقارفة تلك الليلة، وإن كان عليه بعض الغضاضة في إلحاد غيره لزوجته"[14].
يصلي على القبر بعد الدفن:
فعن أبي هريرة: ((أن رجلًا أسود أو امرأةً سوداء كان يقُمُّ المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره - أو قال: قبرها - فأتى قبرها فصلى عليها))[15].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرًا، فقالوا: هذا دُفن - أو دُفنت - البارحة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فصفَّنا خلفه، ثم صلى عليها))[16]، وعن الشعبي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعًا))، قال الشيباني: فقلت للشعبي: من حدثك بهذا؟ قال: الثقة عبدالله بن عباس، هذا لفظ حديث حسن، وفي رواية ابن نمير قال: ((انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعًا))، قلت لعامر: من حدثك؟ قال: الثقة مَن شهده ابن عباس[17].
قال ابن القيم: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر، فصلى مرة على قبر بعد ليلة، ومرة بعد ثلاث، ومرة بعد شهر، ولم يوقت في ذلك وقتًا؛ قال أحمد رحمه الله: من يشك في الصلاة على القبر؟ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الجنازة، صلى على القبر من ستة أوجه، كلها حسان، فحدَّ الإمام أحمد الصلاة على القبر بشهر؛ إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده، وحدَّه الشافعي رحمه الله بما إذا لم يبلَ الميت، ومنع منها مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلا للولي إذا كان غائبًا"[18].
يقدم في اللحد أكثرهم أخذًا للقرآن:
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما، قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا، ولم يُصلَّ عليهم))[19].
قال القسطلاني: "في الحديث دليل على تقديم الأفضل، فيقدم الرجل ولو أميًّا، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، فإن اتحد النوع، قُدِّم بالأفضلية المعروفة في نظائره: كالأفقه والأقرأ، إلا الأب فيقدم على الابن وإن فَضَله الابن؛ لحرمة الأبوة، وكذا الأم مع البنت"[20].
موعظته صلى الله عليه وسلم عند القبر وقعود أصحابه حوله:
فعن علي رضي الله عنه قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرَةٌ، فنكَّس، فجعل ينكُتُ بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كُتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتب شقيةً أو سعيدةً، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ الآية))[21]؛ قال ابن بطال: "فيه جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ"[22].
يعلِّم الصحابة الاستعاذة من عذاب القبر:
فعن عائشة رضي الله عنها: ((أن يهوديةً دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر، قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاةً إلا تعوَّذ من عذاب القبر، زاد غندر: عذاب القبر حق))[23].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))[24].
وعن ابن عباس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))[25].
وفي الختام:
نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجيرنا وإياكم من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، والحمد لله رب العالمين
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩