نفحات من سورة الفاتحة(وإياك نستعين)
المقدمة:
أما بعد، قال الله عز وجل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).
أي: ولئن سألت -أيها الرسول- هؤلاء المشركين: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولنَّ: خلقهن الله، قل لهم إظهارًا لعجز آلهتهم: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، إن أراد الله أن يصيبني بضرٍّ هل تملك إزالة ضرِّه عني؟! أو إن أراد ربي أن يمنحني رحمة منه هل تستطيع منع رحمته عني؟! قل لهم: حسبي الله، عليه اعتمدت في أموري كلها، وعليه وحده يعتمد المتوكلون. انتهى من المختصر في تفسير القرآن الكريم.
الدعاء عبادة
إن من أعظم العبادات التي أمر الله تعالى بها، وحث الرسول صلى الله عليه وسلمَ عليها: عبادة الدعاء، قال الله تعالى: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقال عز وجل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأصحاب السنن وصححه الألباني، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني.
ووعد الله تعالى باستجابة من دعاه بحق، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعاءَ". رَوَاهُ مُسلم.
وَعَن سَلْمَانَ الفارسي رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وابن ماجه وحسنه الألباني.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلمَ عقوبة من لا يسأل الله تعالى ويدعوه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يغضبْ عَلَيْهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وحسنه الألباني.
ولأن الدعاء عبادة فلا يجوز صرفها لغير الله تعالى وحده، ولذا جاء النهى عن صرف تلك العبادة لغيره عز وجل، لأن ذلك من الشرك، قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، وقال جل وعلا: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، وقال عز وجل: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)؛ فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك عياذًا بالله.
التوسل المشروع
التوسل مأخوذ في اللغة من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة معناهما متقارب، فالتوسل هو التوصل إلى المراد والسعي في تحقيقه.
وفي الشرع يراد به التوصل إلى رضوان الله والجنة؛ بفعل ما شرعه وترك ما نهي عنه.
وقد وردت لفظة "الوسيلة" في القرآن الكريم في موطنين:
الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].
الثاني:
قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء: 57].
والمراد بالوسيلة في الآيتين، أي: القربة إلى الله بالعمل بما يرضيه، فقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن البصري وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد.
وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا صريح في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة والعبادات الجليلة، ولذلك قال: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله وينالون به مرضاته من الأعمال الصالحة المقربة إليه.
وينقسم التوسل إلى قسمين: توسل مشروع، وتوسل ممنوع.
فالتوسل المشروع: هو التوسل إلى الله بالوسيلة الصحيحة المشروعة، والطريق الصحيح لمعرفة ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة ومعرفة ما ورد فيهما عنها، فما دل الكتاب والسنة على أنه وسيلة مشروعة فهو من التوسل المشروع، وما سوى ذلك فإنه توسل ممنوع.
والتوسل المشروع يندرج تحته ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، ودليل مشروعية هذا التوسل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وهذا كأن يقول المسلم في دعائه: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعَفُ عَنِّي، أو يقول: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي وترحمني، ونحو ذلك.
وأدعية الكتاب والسنة كلها لا تخلو من ذكر الأسماء والصفات، فالعبد عندما يسأل الله تعالى يقول: "يا رب"، وهو توسل بالربوبية، أو "اللهم"، وهو توسل بالألوهية، والأدعية المستجابة التي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلمَ ما يدل على فضلها هي توسل بالأسماء والصفات، كما سَمِعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني.
ودَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اَللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ: فَقَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ» ثَلَاثًا. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني.
وجميع أذكار الصباح والمساء والنوم والدخول والخروج للبيت أو المسجد، والنزول والسفر، والطعام والشراب، وجميع الأذكار الواردة هي أدعية فيها ثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته، وسؤال الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته دون استثناء، وجميع أدعية المؤمنين في الكتاب وفي السنة كلها متضمنة التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بذكر الأسماء والصفات.
وهذا النوع من التوسل هو أعظم أنواع التوسل.
النوع الثاني:
التوسل إلى الله تعالى بذكر العمل الصالح الذي قام به العبد، كأن يقول: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي، أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك محمد صلى الله عليه وسلمَ وإيماني به أن تفرج عني، أو أن يذكر الداعي عملا صالحًا ذا بال قام به فيتوسل به إلى ربه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 16]، وقوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 53].
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار الثلاثة فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، وسأل كل منهم ربه بعمل صالح عمله خالصًا لوجه الله الكريم فانفرجت عنهم الصخرة التي كانت أطبقت عليهم وخرجوا يمشون. أخرجه البخاري ومسلم.
النوع الثالث:
التوسل إلى الله تعالى بدعاء المسلم الصالح الذي ترجى إجابة دعائه، كأن يذهب المسلم إلى رجل يرى فيه الصلاح والتقوى والمحافظة على طاعة الله، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج كربته وييسر أمره.
وهذا النوع من التوسل إنما يكون في حال حياة من يطلب منه الدعاء، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له، وكذا لا يجوز أن يخاطبه أو ينادي عليه وهو غائب ولو كان حيًا، لأنه لا يسمعه، ولأن هذا ينطوي على اعتقاد باطل.
ويدل على مشروعية هذا النوع قوله تعالى عن أبناء يعقوب عليه السلام: (قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ . قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 97، 98]، ويدل عليه أيضًا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بدعاء عام ودعاء خاص؛ ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتِ المَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا» قَالَ أَنَسُ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ، وَلاَ دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن من أمته سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقال: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»، ومن ذلك حديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أويسًا القرني، وقوله للصحابة: « فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ»، وقد لقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله أن يستغفر له. أخرجه مسلم.
ومنه طلب الصحابة رضي الله عنهم من العباس رضي الله عنه أن يدعو ويستسقي لهم في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه حين أصابهم القحط، كما في صحيح البخاري: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، فَيُسْقَوْنَ.
التوسل الممنوع
التوسل الممنوع: هو التوسل إلى الله تعالى بما لم يثبت في الشريعة أنه وسيلة، وهو أنواع بعضها أشد خطورة من بعض، منها:
الأول: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وجلب المنافع ودفع المضار ونحو ذلك، كأن يقول للميت أو المقبور أو الجن أو الغائب: أغثني يا سيدي فلان، أو اشف مريضي، أو رد غائبي، أو ارزقني بكذا، ومنه طلب المدد من الأموات وغيرهم مع اعتقاد أنهم يملكون النفع والضر؛ فهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة، قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ).
الثاني: التوسل إلى الله بفعل العبادات عند القبور والأضرحة بدعاء الله عندها، والبناء عليها، ووضع القناديل والستور ونحو ذلك، ومخاطبة الميت أو الغائب بنحو: ادع الله لي، اسأل الله لي، فهذا من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد، وهو ذريعة مفضية إلى الشرك الأكبر.
الثالث: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين أو جاههم ومكانتهم ومنزلتهم عند الله، وهذا مما اختلف فيه، فذهب بعض أهل العلم إلى جوازه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وأجازه بعضهم مع عموم الصالحين، ومنع منه بعضهم، وهو الراجح، والحاصل أن التوسل بذوات المخلوقين وجاههم محرم، بل هو من البدع المحدثة؛ لأنه توسل لم يشرعه الله ولم يأذن به، ولأن جاه الصالحين ومكانتهم عند الله إنما تنفعهم هم، كما قال الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، ولذا لم يكن هذا التوسل معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقد نص على المنع منه وتحريمه غير واحد من أهل العلم:
قال أبو حنيفة رحمه الله: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أوليائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام.
شبهات والرد عليها
قد يورد المخالفون لأهل السنة والجماعة بعض الشبهات والاعتراضات في باب التوسل؛ ليتوصلوا بها إلى دعم تقريراتهم الخاطئة، وليوهموا عوام المسلمين بصحة ما ذهبوا إليه، ولا تخرج شبهات هؤلاء عن أحد أمرين:
الأول: إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة يستدل بها هؤلاء على ما ذهبوا إليه، وهذه يفرغ من أمرها بمعرفة عدم صحتها وثبوتها، ومن ذلك:
1- حديث: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم»، أو «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم»، فهذا حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث.
2- حديث: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور»، أو «فاستغيثوا بأهل القبور»، هو حديث مكذوب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء.
3- حديث: «لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه»، وهو حديث باطل مناقض لدين الإسلام، وضعه بعض المشركين.
4- حديث: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك»، وهو حديث باطل لا أصل له، ومثله حديث: «لولاك ما خلقت الأفلاك».
فمثل هذه الأحاديث المكذوبة والروايات المختلقة الملفقة لا يجوز لمسلم أن يلتفت إليها فضلا عن أن يحتج بها ويعتمدها في دينه.
الثاني: أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم يسيء هؤلاء فهمها ويحرفونها عن مرادها ومدلولها، ومن ذلك:
1- ما ثبت في الصحيح: «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون». ففهموا من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه ومكانته عند الله عز وجل، وأن المراد بقوله: «كنا نتوسل إليك بنبينا [أي بذاته أو بجاهه] فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا [أي بجاهه]»، وهذا ولا ريبِ فهم خاطئ وتأويل بعيد غير مراد من النص؛ إذ لم يكن معروفًا لدى الصحابة التوسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه، وإنما كانوا يتوسلون إلى الله بدعائه حال حياته، كما مر معنا في حديث أنس من توسل الأعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلم لما قحط المطر فدعا الله تعالى فنزل المطر.
وعمر رضي الله عنه لم يُرِدْ بقوله: «إنا نتوسل إليك بعم نبينا» أي ذاته أو جاهه، وإنما أراد دعاءه، ولو كان التوسل بالذات أو الجاه معروفًا عندهم لما عدل عمر عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، بل ولقال له الصحابة إذ ذاك: كيف نتوسل بمثل العباس ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بالدعاء لا بالذات والجاه.
2- حديث عثمان بن حنيف: «أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في». رواه الترمذي وأحمد وقال البيهقي إسناده صحيح.
ففهموا من الحديث أنه يدل على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، وليس في الحديث ما يشهد لذلك، فإن الأعمى قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له: «إن شئت صبرت وإن شئت دعوت»، فقال: فادعه، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في الحديث المصرحة بأن هذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته أو جاهه؛ ولذا ذكر أهل العلم هذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ولهذا أورده البيهقي في دلائل النبوة.
وأما الآن وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن مثل هذا لا يمكن أن يكون لتعذر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأحد بعد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». رواه مسلم، والدعاء من الأعمال الصالحة التي تنقطع بالموت.
ومن العجب أن يستدل قوم بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35]، وبقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء: 57]، فالمراد بالوسيلة في الآية الأولى: التقرب إلى الله بالطاعة والعمل بما يرضيه وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين كما حكاه ابن كثير رحمه الله، وكذا المراد بالآية الثانية هو القربة إلى الله تعالى.
🟢تم استفادة المادة من الكتب التالية:
المنة شرح اعتقاد أهل السنة، د ياسر برهامي.
فضل الغني الحميد تعليقات هامة على كتاب التوحيد.
أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، لمجموعة علماء.
عقيدة أهل السنة والجماعة، د أحمد فريد.
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩