حادثة (شق الصدر) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. تفاصيلها والحكمة منها
السؤال:
️
- ما صحة حادثة (شق الصدر)؟
- وكم مرة شُق؟
- وما الفائدة منها؟
- لماذا لم يولد النبي صلى الله عليه وسلم مبرأً من حظ الشيطان منذ ولادته بدلا من شق صدره؟
- لماذا تعددت حادثة (شق الصدر)؟
- هل (شق الصدر) خاصٌ بنبينا عليه الصلاة والسلام؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:
فالمقصود بشق الصدر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من شق الملائكة لصدره الشريف ثم غسل صدره وقلبه وإعادته بعد ذلك من جديد كما كان سابقاً.
● فأما ثبوت هذه الحادثة فقد تواتر نقل قصة (شق الصدر) عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعموم، وحكم عدد من العلماء منهم ابن حجر العسقلاني وغيره بتواتر قصة (شق الصدر)، وهي كما قالوا، فقد نقلها عنه قرابة العشرة من أصحابه رضوان الله عليهم.
هذا من حيث العموم.
وأما من حيث التفصيل فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة حصول هذه الحادثة للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين.
أولاهما:
ما حصل له وهو طفل صغير عند مرضعته حليمة.
- فروى مسلم في صحيحه وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة (يعني قطعة دم)، فقال: "هذا حظ الشيطان منك"،
ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه (ضم طرفيه فالتأما) ثم أعاده في مكانه.
وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (أي مرضعته)، فقالوا: إن محمدا قد قتل !،
فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره .)
- وروى ابن حبان في صحيحه وغيرُه عن حليمة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت وهي تحكي عن رعايته (فبينا هو يلعب وأخوه يوما خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاءنا أخوه يشتد( يعني يجري)، فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي، قد جاءه رجلان فأضجعاه، وشقا بطنه !
قالت: فخرجنا نشتد فانتهينا إليه وهو قائم منتقع لونه، فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قلنا: ما لك أي بني؟
قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ، ما أدري ما صنعا..) الحديث.
- وروى الدارمي والحاكم وصححه عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان أول شأنك يا رسول الله ؟
قال (كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بَهم لنا (يعني غنم) ولم نأخذ معنا زادا، فقلت : يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي وكنت عند البهم، فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: نعم.
فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفاء فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: حصه (يعني : خطه) واختم عليه بخاتم النبوة .. ثم انطلقا وتركاني ..) الحديث
ثانيتهما:
ما حصل له ليلة الإسراء والمعراج.
- فروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن ليلة الإسراء والمعراج:
(فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، (يعني شقه) ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه ..) الحديث
- وفي الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة رضي الله أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فقال (بينما أنا في الحطيم مضطجعا، إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه (يعني من ثغرة نحره إلى شعرته)، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي ..) الحديث
- وفي الصحيح أيضاً عن لأنس بن مالك في روايةٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم (أُتيتُ فانطلقوا بي إلى زمزم) قال (فتولاه منهم – يعني ممن أتاه من الملائكة - جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده (يعني عروق حلقه) ثم أطبقه ..) الحديث
فهذا ما صح في الصحيحين وغيرهما من حصول حادثة (شق الصدر) مرتين، مرةً في طفولته عليه الصلاة والسلام ومرةً عند الإسراء والمعراج.
وقد روي في أحاديث أخرى (فيها ضعف) أن شق الصدر حصل في غير هاتين المرتين أيضاً.
- فروي أنه وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عند عمر عشر سنين، كما روى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وغيره عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أول أمره قال (إني لفي صحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل : أهو هو؟ قال : نعم، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح (يعني روائح) لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا.
فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، وقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري، ففلقها فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له : أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها فطرحها، فقال له : أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج يشبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، فقال : اغدُ واسلم ..) الحديث، وإسناده ضعيف فيه عدة مجاهيل، ضعفه ابن المديني وغيره.
- وروي أنه وقع عند البعثة، كما روى أبو داود الطيالسي وغيره عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بدء الوحي أنه قال (..فأخذني جبريل ، فصلقني لحلاوة القفا وشق عن بطني، فأخرج منه ما شاء الله ثم غسله في طست من ذهب ثم أعاده فيه، ثم كفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم، ثم قال لي {اقرأ باسم ربك} ..) الحديث، وإسناده ضعيف لجهالة بعض رواته.
والحاصل أن ما صح في حادثة شق الصدر مرتان، وما كان في إسناده ضعف مرتان أخريان، وقد اختلف العلماء في تعدد حصول حادثة شق الصدر، فقال بعضهم أنها لم تقع إلا مرة واحدة، وقال أكثر العلماء إنها حصلت أكثر من مرة كما صح في الأحاديث التي سبق ذكرها، وهو الصحيح والله أعلم.
● وأما الفائدة من حادثة (شق الصدر) بالعموم، فقد أوضحتها الأحاديث السابقة، وأجملها في (3) نقاط:
1. استخراج (حظ الشيطان) من قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسلط عليه لأنه قد عصم منه بإزالة مداخل الشيطان وشهواته وشبهاته على قلبه الشريف.
قال القرطبي (وهذه العلقة المنتزَعَة من قلبه هي القابلة للوسواس والمحرِّكة للشهوات، فأُزِيل ذلك عنه، وبذلك أُعين على شيطانه حتّى سلم منه).
وإنما حصل له هذا في صغره حتى ينشأ على أكمل الأحوال وأحسنها مطهراً من عيوب الصبا وفورة الشباب.
2. غسل صدره وقلبه الشريف بماء زمزم لتنقيته، ولتناله بركة الماء المبارك.
3. إفراغ (الإيمان) و (الحكمة) في قلبه وصدره الشريف، وزاد في بعض الروايات إفراغ (السكينة) و (الرأفة) و (الرحمة).
والمقصود هنا إفراغ ما يزيد (كمال الإيمان) و (كمال الحكمة) في صدره عليه الصلاة والسلام، بحيث يصل فيهما إلى أعلى المراتب البشرية، مع ما يصاحبهما من (السكينة) عند أسباب الفزع، و (الرأفة) و (الرحمة) بمن يدعوهم حتى وإن كذبوه وأساؤوا إليه حتى كاد أن يهلك حزناً عليهم ألاّ يكونوا مؤمنين.
(وإذا صلح القلب صلح الجسد) كما صح عنه عليه الصلاة والسلام، فكيف الظن بمن غُسل قلبه ونُقّي صدره بماء زمزم، ثم حشي إيماناً ومُلئ حكمة وأفرغت فيه السكينة وغرست فيه الرأفة والرحمة؟!
● وأما الحكمة من حادثة (شق الصدر)، ولماذا لم يولد النبي صلى الله عليه وسلم مبرّأً من حظ الشيطان، مزيداً في إيمانه وحكمته منذ ولادته بدلاً من أن يحصل له كل هذا عبر شق الصدر، فالجواب عنها في نقاط:
1. أن في (شق الصدر) أمام الناس إظهار لكمال (باطنه) عليه الصلاة والسلام كما ظهر للناس كمال (ظاهره)، وإلا فكيف سيعرف الناس ما أكرمه الله به في (باطنه) لو ولد به مخفياً عن أعين الناس؟!
2. أن في (شق صدر النبي) أمام عينيه الشريفتين مع إخراج جوفه وقلبه إلى آخر ما حصل معه وهو ينظر إلى كل ذلك دون أن يتألم أو يخاف ما يورثه الشجاعة وعدم الخوف من شيء في الحياة، فإن أعظم ما قد يخافه الإنسان في دنياه قد حصل له أمام عينيه فما ضره منه شيء، فما الذي يمكن بعد ذلك أن يخيفه؟!
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كما أجمع أصحابه (أشجع الناس).
3. أن في إخراج (حظ الشيطان) من قلبه عليه الصلاة والسلام أمام عينيه، وبقاء أثر هذا الاستخراج في صدره يراه الناس (كما ذكر أنس وغيره) تثبيت له ولمن يراه (أن قلبه الكريم عليه الصلاة والسلام لا ينزغ فيه شيطان أبدًا، وأنه محفوظ معصوم لا يقربه شيطان في قلبه وفي سره، ليكون على يقين من خواطره أنها حق وصدق لا يتمارى فيها ولا يتردد) كما قال ابن هبيرة.
● وأما الحكمة من تعدد حادثة شق الصدر، فلكل واحدة منها مناسبة خاصة:
- فشق الصدر وإخراج حظ الشيطان في صغره عليه الصلاة والسلام يتناسب مع سنه الصغير حتى ينشأ (كما ذكرنا سابقاً) على أكمل الأحوال وأحسنها مطهراً من جميع العيوب.
- وشق الصدر وغسله وملؤه إيماناً وحكمة ليلة الإسراء ليتأهب للمناجاة والإكرام الذي لقيه يومئذ.
- وإذا ثبت (وقد سبق أنه ضعيف) شق صدره حينما نزل عليه جبريل بالوحي أول مرة بعد البعثة، فإن ذلك (زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير) كما قال ابن حجر.
- وإذا ثبت (وقد سبق أنه ضعيف) شق صدره عندما بلغ عشر سنين، فإن ذلك من أجل (أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال) كما قال بعض العلماء.
● وهل كان (شق الصدر وغسل القلب) خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه مشترك بين الأنبياء؟
فيه خلاف:
- فقال بعض العلماء إنه من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكروا على ذلك دليلا.
- وقال كثير من العلماء إنه كان أمراً مشتركا بين جميع الأنبياء.
ومما استدلوا به ما رواه الطبري وغيره عن ابن عباس (بإسناد ضعيف) في تفسير السكينة التي تنزلت على بني إسرائيل في قصة طالوت وجالوت أنها (طست من ذهب، يغسل فيها قلوب الأنبياء)، وقد صح مثله عن السدي الكبير أحد مفسري التابعين، وهذا يقوي قول من قال بأن (شق الصدر) لم يكن خاصاً بنبينا عليه الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم.