الجدال والمراء
مختصر الدروس في درء مكدرات النفوس
التعريف:
لغةً: الجدال: مأخوذ من مادَّة (ج د ل)، التي تدلُّ على شدة الخصومة والغلبة، أو مقابلة الحُجة بالحجة.
المِراء: من الشك ومخالفة الغير، وعدم الوضوح معه، والتماري والمماراةُ: المجادَلةُ على مذهب الشكِّ والريبة، ويقال للمناظَرة: مماراة، وماريتُه أماريه مماراة ومراءً: جادلته.
اصطلاحًا:
الجدال: قصدُ إفحام الغير، وتعجيزه، وتنقيصه؛ بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه.
والمراء: طعنٌ في كلام الغير؛ بإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرضٌ سوى تحقير الغير.
وإطلاق المماراة على المجادلة؛ لأن كلًّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه.
حكمهما في الإسلام:
الجدال والمراء في القرآن وفي دين الله، عدَّهُ صاحب الزواجر من الكبائر، فقال:
"الكبيرة التاسعة والستون: الجدال والمراء، وهو المخاصمة، والمحاججة، وطلب القهر والغلبة في القرآن أو الدين"، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجادلوا في القرآن؛ فإن جدالًا فيه كفر))[1].
وذكر الذهبي رحمه الله في الكبائر - نقلًا عن النووي رحمه الله -: "اعلم أن الجدال قد يكون بحق، وقد يكون بباطل، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال الله تعالى: ﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [غافر: 4]، قال: فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره، كان محمودًا، وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالًا بغير علم، كان مذمومًا، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوصُ الواردة في إباحته وذمِّه".
وقد ثبت في السنة النَّهيُ عنه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن جادل في خصومة بغيرِ علم، لم يزل في سخط حتى ينزع))[2].
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال))، ثم تلا: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ﴾ [الزخرف: 58][3].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أخوفُ ما أخاف عليكم: زلَّةُ عالم، وجدال منافق في القرآن، ودنيا تقطع أعناقكم))[4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المِراءُ في القرآن كفر))[5].
فالحاصل: أن الجدال في القرآن ودينِ الله كبيرةٌ، أما إذا كان لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذا مطلوب، إذا استكمل المرءُ أدواته ومقدماته؛ حتى لا يخدل الحق فينهزم أمام جيوش الباطل.
فإيَّاكَ إيَّاكَ المِراءَ فإنَّهُ
إلى الشرِّ دعَّاءٌ وللصَّرمِ جَالبُ
قال قيس بن السَّائب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي في الجاهلية، فكان خيرَ شريك، فكان لا يُدارِي ولا يماري.
وقال معاذ بن جبل: "إذا كان لك أخٌ في الله، فلا تمارِه، ولا تساره الحديث".
وقال لقمان لابنه: "يا بني، لا تمارينَّ حكيمًا، ولا تجادلنَّ لجوجًا، ولا تعاشرنَّ ظلومًا، ولا تصاحبنَّ متهمًا".
لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلافِ
كثيرُ المراءِ قليلُ الصوابِ
أشدُّ لجاجًا من الخنفساءِ
وأزهى - إذا ما مشى - مِن غُرابِ
المظاهر:
1. الطعن في كلام الغير بدون حجج قوية يستند إليها، بحيث تدفع حجج الطرف الآخر.
2. الخروج عن سياق الحوار إلى محاور بعيدة عن المقصد الذي من أجله أُقِيمَ النقاش.
3. التنقُّص في ألفاظ المتحدِّث؛ لضعفٍ في لُغته أو إملائه أو معناه، أو التشكيك في قصده، واتهامه بقصدٍ آخرَ غير وارد.
4. ارتفاع الصوت وإظهار الكبرياء، واشتداد الخصومة عند بيان عوار المجادل والمماري.
الأسباب والدوافع:
1. التربية الخاطئة من قِبل الشيخ والمربِّي على الجدال تلقيًا؛ كتعلم فنِّ الجدل والمناظرة قبل أوانه، أو اقتداءً وتقليدًا؛ كرؤية وتتبُّع سلوكه في خطابه ومناظراته.
2. ضحالة التحصيل العلمي والمعرفي، وضعف الرسوخ في أصول ونصوص الكتاب والسُّنة.
3. الكِبر والغرور، فلا تسمح له نفسُه بالإذعان للحق الذي عرَفه واتضح له.
4. إعجاب المرء بنفسه وبما حصله من علوم ومعارفَ، وغرورُه بالمكانة الوهمية التي تحصل عليها.
5. الجهل بالذات وقدرها، وبالآخرين ومكانتهم، فينظر إليهم أنهم جهلة لا يعلمون شيئًا.
6. حب الانتصار والانتقام من الآخرين حسدًا وحقدًا عليهم، وقد كان الشافعيُّ رحمه الله يقول: "ما كلَّمتُ أحدًا قطُّ إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدًا قطُّ إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه".
7. فراغ القلب مِن تقوى الله ومعرفته، وبالتالي يحصل التشويش على الحق والصواب.
8. الغفلة عن العواقب المترتبة على الجدال والمراء.
الآثار والمضار:
1. حرمان الأجر العظيم والثواب الجزيل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقًّا)) .
2. حصول بُغْض الناس وكراهيتهم للمجادل، فيتحاشونه خشيةَ أن يؤذيهم بجداله.
3. حرمان الوصول إلى الحق ومعرفة الصواب، وغياب السعادة المترتبة على هذا الوصول.
4. الاستمرار فيه يؤدي إلى التمادي في الباطل، والتمسُّكِ بالخطأ.
5. المراء يُفسد الصداقةَ القديمة، ويحُلُّ العقدةَ الوثيقة، وأقلُّ ما فيه أن تكون به المغالبة، والمغالبة أمتن أسبابِ القطيعة.
6. المراء يُغلِق باب الحوار ويُلغيه؛ لأنه يدفع طرفي الحوار إلى تصوُّرِ الحوار كمباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتلًا أو مقتولًا.
العلاج:
1. تربية النفس على محبة الله وتوحيده ومعرفته، والسعي لتحصيل مرضاته.
2. القيام بواجب النصيحة، والتحلي بآدابها؛ بحيث تؤتي ثمارَها في توجيه المُناظر إلى الجدال بالتي هي أحسن.
3. سَعْي المربي الجاد إلى تربية مريديه وأتباعه على حب الحق والوصول إليه بالمعرفة المتواصلة لأحكام الشريعة السمحاء.
4. الابتعاد عن تعلم فن الجدل والمناظرة قبل اكتمال الأهلية في العلم.
5. فإن كان ولا بد من الجدال، فالواجب التأدُّب بآداب الجدال التي بيَّنتها كتبُ الدعوة إلى الإسلام [6].
6. غَرْس مفاهيم احترام الآخرين وتقديرهم، ولو اختلفت الأفكار والأقوال، والابتعاد عن مفهوم إلغاء المخالفين.
7. تعويد النفس على الجرأة والشجاعة في الاعتراف بالخطأ وقَبول الحق من أي أحد.
8. الابتعاد عن الأفراد المتعصِّبين والذين يحبُّون الخوض بالباطل، وکذلك الامتناع عن مناقشة مثل هؤلاء الأشخاص؛ حيث سيجرُّ الإنسان إلى الجدال والمراء وإن کان غير قاصد لذلك.
9. اختيار السکوت في کل مَوْرد يحتمل فيه أن يکون الجدال بالباطل، وکلما استمر هذا السکوت مدَّة أطول، وتحمل الضغط النفسي، وتحدِّيات الحالة المزاجية، فإنَّ ذلك سيوفِّر الأرضية المساعدة للتخلُّص من شرِّ هذه الحالة السلبية، ومعالجة هذه الصفة فی النفس.
10. التفکُّر الدقيق في النتائج السلبية والعواقب الوخيمة المترتبة على هذه الصفة الذميمة.
المراجع:
• لسان العرب؛ لابن منظور.
• الفروق اللُّغوية؛ لأبي هلال العسكري.
• إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي.
• روضة العقلاء ونزهة الفضلاء؛ لابن حبان البستي.
• نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم؛ مجموعة علماء.
• الآداب الشرعية؛ لابن مفلح.
=================
المراجع:
• لسان العرب؛ لابن منظور.
• الفروق اللُّغوية؛ لأبي هلال العسكري.
• إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي.
• روضة العقلاء ونزهة الفضلاء؛ لابن حبان البستي.
• نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم؛ مجموعة علماء.
• الآداب الشرعية؛ لابن مفلح.
[1] أخرجه الطيالسي (2/7)، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة " 5 / 545: وهذا إسناد صحيح.
[2] أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت وآداب اللسان 1 /113.
[3] انظر: السنة؛ لابن أبي عاصم (101)، والإبانة الكبرى؛ لابن بطة (298)، والفقيه والمتفقه؛ للخطيب (1: 230).
[4] المدخل إلى السنن الكبرى؛ للبيهقي (832)، والمعجم الأوسط؛ للطبراني (8715)، وشعب الإيمان؛ للبيهقي (10311).
[5] أخرجه أحمد في مسنده برقم (7929)، وابن حبان في صحيحه برقم (75).
[6] انظر: "وسائل الدعوة"؛ لعبدالرحيم المغذوي (ص98 - 99).
الالوكة
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩