في حكم الرُّجوع عن الطَّلاق المُعلَّق
السؤال:
إذا علَّقَ الرَّجلُ طلاقَ امرأتِه على شرطٍ كأَنْ يقولَ الرَّجلُ لزوجتِه مثلًا: «إِنْ ذهبتِ إلى بيتِ أهلِك أو خرجتِ فأنتِ طالقٌ»، ونحوَ ذلك مِنْ ألفاظِ الطَّلاقِ المعلَّقِ، فهل له مِنْ سبيلٍ لكي يَنقُضَ طلاقَه قبل وقوعِ الشَّرطِ ويرجِعَ عنه، أم لا يسَعُه الرُّجوعُ في ذلك؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فبِغضِّ النَّظرِ عن حكمِ الطَّلاقِ المُعلَّقِ على شرطٍ، سواءٌ كان الشَّرطُ قَسَمِيًّا أو جزائيًّا، وما يترتَّبُ على كُلٍّ منهما(١)، فإنَّ محلَّ السُّؤالِ يظهرُ في عدولِ الزَّوجِ عمَّا تلفَّظ به مِنْ طلاقٍ معلَّقٍ وإرادتِه نَقْضَه، فهل له أَنْ يُبطِلَ الصِّيغةَ المعلَّقةَ على الشَّرطِ، ليعودَ أمرُه إلى ما كان عليه قبلَ إيقاعِها، أم أنَّه غيرُ قابلٍ للرُّجوع والإبطال؟
والعلماءُ ـ في هذه المسألةِ ـ على أقوالٍ: فما عليه الجمهورُ مِنْ أتباعِ المذاهبِ الأربعةِ(٢): أنَّ مَنْ علَّقَ الطَّلاقَ على حصولِ شيءٍ فإنَّه يَلْزَمُه الطَّلاقُ المعلَّقُ ولا يمكنُه إبطالُه ولا التَّراجعُ عنه؛ قال محمَّد علِّيش ـ رحمه الله ـ: «وهو إذا علَّقَ الطَّلاقَ على ذلك؛ فليس له رجوعٌ عنه»(٣)، وقال المَرْداويُّ ـ رحمه الله ـ: «إذا علَّق الطَّلاقَ على شرطٍ لَزِمَ، وليس له إبطالُه، هذا المذهب، وعليه الأصحابُ قاطبةً، وقطعوا به»(٤)، ووجهُ تعليلِ الحكمِ عندهم: أنَّه «أَخرجَ الطَّلاقَ مِنْ فِيهِ على هذا الشَّرطِ فلَزِمَ، كما لو كان الطَّلاقُ منجَّزًا»(٥).
وخلافًا لمذهبِ الجمهورِ، فقد ذهَبَ بعضُ الحنابلةِ إلى القولِ بجوازِ التَّراجعِ عن الطَّلاقِ المعلَّقِ، وهو روايةٌ في المذهبِ(٦)، وعُمدتُهم في ذلك القياسُ؛ ﻓ «إنَّ الإنسانَ إذا قال لعبدِه: «إذا جاء رأسُ الشَّهرِ فأنت حُرٌّ» فإنَّ له أَنْ يرجعَ، فإذا جاز أَنْ يرجعَ في العِتقِ ـ وهو أشدُّ نفوذًا مِنَ الطَّلاقِ وأحبُّ إلى الله ـ فلَأَنْ يجوزَ ذلك في الطَّلاقِ مِنْ بابٍ أَوْلى»(٧).
وذهَبَ ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ وبعضُ الشَّافعيَّةِ(٨) إلى جوازِ الرُّجوعِ عن الطَّلاقِ إِنْ كان التَّعليقُ مِنْ بابِ المعاوضةِ، كما «لَوْ قَالَ: «إنْ أَعْطَيْتِينِي أَوْ إذَا أَعْطَيْتِينِي أَوْ مَتَى أَعْطَيْتِينِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ» أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ، كَالْكِتَابَةِ [أي: المكاتبة](٩) عِنْدَهُ [أي: عند ابنِ تيميَّة]»(١٠)، ويظهرُ أنَّ الدَّليلَ في ذلك هو القياسُ على المكاتبةِ الَّتي يجوزُ له الرُّجوعُ عنها قبْل أَنْ يُعطِيَه مالَها، لأنَّه لم يتمَّ العِوَضُ(١١).
والظَّاهرُ أنَّ تَبايُنَ الآراءِ إنَّما هو نتيجةٌ لعدمِ وجودِ نصٍّ شرعيٍّ صحيحٍ وصريحٍ في هذه المسألةِ، وإِنْ كان لقولِ ابنِ تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ وبعضِ الشَّافعيَّةِ وجهٌ قويٌّ وحظٌّ مِنَ النَّظرِ فيما إذا كان التَّعليقُ مِنْ بابِ المعاوضةِ، إلَّا أنَّه إذا كان شرطًا محضًا مِثلَما ورَدَ في السُّؤالِ فعلى هذا المذهبِ لا يملكُ الرُّجوعَ ولا إبطالَه ولا إبطالَ التَّعليقِ، وكذلك في قياسِ الطَّلاقِ على العِتقِ في القولِ الثَّاني ـ وإِنْ كان العِتقُ أشدَّ نفوذًا مِنَ الطَّلاقِ وأحبَّ إلى الله ـ إلَّا أنَّ الفارقَ قد يظهرُ في أنَّ العِتقَ يتعلَّقُ بأحكامِ العبدِ مِنْ جهةٍ، وأنَّه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ قد يُشدَّدُ في الطَّلاقِ ما لا يُشدَّدُ في العِتقِ أو في غيرِه، وذلك لئلَّا يتهاونَ النَّاسُ في الطَّلاقِ ولا يستعجلوا في أمره(١٢)، لذلك كان مذهبُ الجمهورِ في هذه المسألةِ ـ عندي ـ أَقرَبَ إلى الصَّوابِ، وأحوطَ للدِّينِ، وأسدَّ لذريعةِ التَّساهُلِ في أحكامِ الأَيْمانِ والطَّلاقِ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٠ رمضان ١٤٤٥ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ مارس ٢٠٢٤م
(١) انظر الفتوى رقم: (٨١١) الموسومة ﺑ: «في عدمِ وقوع الطَّلاق المعلَّق على شرطٍ قَسَميٍّ» على الموقع الرَّسميِّ.
(٢) انظر: «بدائع الصَّنائع» للكاساني (٧/ ٣٣٥)، «الإنصاف» للمَرْداوي (٩/ ٦٢)، «مغني المحتاج» للشِّربيني (٣/ ٣٢٦)، «مِنَح الجليل» لمحمَّد عليش (٤/ ١٨٦)، «الشَّرح المُمتِع» لابن عثيمين (١٣/ ١٢٧).
(٣) «مِنَح الجليل» لمحمَّد عليش (٤/ ١٨٦).
(٤) «الإنصاف» للمَرْداوي (٩/ ٦٢).
(٥) «الشَّرح المُمتِع» لابن عثيمين (١٣/ ١٢٧).
(٦) انظر: «الإنصاف» للمَرْداوي (٩/ ٦٢).
(٧) «الشَّرح المُمتِع» لابن عثيمين (١٣/ ١٢٩).
(٨) انظر: «روضة الطَّالبين» للنَّووي (٧/ ٣٨١).
(٩) قال أبو السَّعادات بنُ الأثير في «النِّهاية» (٤/ ١٤٨): «الكتابة: أَنْ يُكاتِبَ الرَّجلُ عبْدَه على مالٍ يُؤدِّيه إليه مُنجَّمًا، فإذا أدَّاه صار حُرًّا، وسُمِّيَتْ: كتابةً لمصدرِ كَتَب، كأنَّه يكتب على نفسِه لمولاه ثمَنَه، والعبدُ مُكاتَبٌ، وإنَّما خُصَّ العبدُ بالمفعول لأنَّ أصلَ المكاتبةِ مِنَ المَوْلى، وهو الذي يُكاتِبُ عبدَه» [بتصرُّف].
(١٠) انظر: «الفروع» لابن مُفلِح (٥/ ٢٧٥)، «الإنصاف» للمَرْداوي (٩/ ٦٢).
(١١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيميَّة (٣٣/ ٢٠١)، «الشَّرح المُمتِع» لابن عثيمين (١٣/ ١٢٧، ١٢٩).
(١٢) ومِنْ أمثلةِ ذلك: الطَّلاقُ الثَّلاثُ بلفظٍ واحدٍ الذي أَمْضاه عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه على النَّاسِ ثلاثًا على سبيلِ العقوبة لِاستهانَتِهم بأَمْرِ الطلاق واستعجالهم فيه، كما هو ظاهرٌ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابتِ في «صحيح مسلمٍ» وغيرِه بإسنادٍ كُلُّ رجالِه أَئِمَّةٌ: أنَّه قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ!»، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ»؛ وَفِي رِوَايَةٍ أنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «أَتَعْلَمُ: أَنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟» فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: «نَعَمْ» [أخرجه مسلمٌ في «الطلاق» (١٤٧٢)، وأبو داود في «الطلاق» باب نسخِ المراجعة بعد التَّطليقات الثَّلاث (٢١٩٩، ٢٢٠٠)، والنَّسائيُّ في «الطَّلاق» بابُ طلاق الثَّلاث المتفرِّقة قبل الدُّخول بالزَّوجة (٣٤٠٦)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما].
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩