الرقمنة والفلسفة
يقول الفيلسوف السويسري-الألماني ، المولود في كوريا الجنوبية ، بيونغ تشول هان ، عن القهر الرقمي :
" نحن اليوم مهووسون ليس بالأشياء ، ولكن بالمعلومات والبيانات ، أي بغير الأشياء . اليوم نحن جميعاً مصابون بجنون المعلومة " .
" الرقمنة ستؤدي إلى بطالة جماعية ، الشيء الذي سيطرح مشكلا خطيرا في المستقبل ، فهل سيتكون مستقبل الإنسان من الدخل الأساسي وألعاب الكمبيوتر ؟ " .
الهاتف الذكي هو أداة عبادة الهيمنة الرقمية ، "وهو برنامج" لتحقيق الخضوع والقهر ، هو بمثابة السُّبحة وحباتها ، ولهذا نحتفظ به في أيدينا باستمرار . فـ”الإعجاب” هو بمثابة “آمين” رقمية ، حيث نتجه نحو كسب الاعتراف ، ونخلع ملابسنا اختيارا ، لكننا لا نطلب المغفرة ، بل نطلب بدلاً من ذلك الاهتمام " .
الرقمنة في أبسط تعريف لها ، هي تحويل المعرفة إلى أرقام ورموز وبيانات ، تجد حضورها في الحواسيب وفي شبكة الإنترنيت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي . وهذه الثورة التي حدثت في المعرفة نتيجة للتقدم الهائل في الصناعة والتكنولوجيا ، هي التي أدت إلى ظهور مصطلحات معرفية جديدة تؤسس لعصر جديد ، هو العصر الرقمي الذي أثر على مختلف مناحي الحياة . ومن أبرز هذه المصطلحات الجديدة : العولمة ، الثورة المعلوماتية ، الثورة الرقمية ، مجتمع المعرفة ، سوق المعرفة ، اقتصاد المعرفة ، تكنولوجيا المعرفة … ولا شك في أن الثورة الرقمية انعكست ايجابا وسلبا على الطبيعة والبيئة والإنسان والمجتمع والثقافة ، وعلى كل الموجودات بدون استثناء ، فهي ظاهرة متعددة السياقات والأبعاد ، وبذلك فهي ثورة ثقافة كما تصوّر ريمي ريفيل في كتابه "الثورة الرقمية ، ثورة ثقافية " . وعلى هذا الأساس ، لم يكن من الممكن أن تفلت هذه الظاهرة من الدراسة الفلسفية ، وذلك بظهور متدرج لفلسفة التكنولوجيا ، كفرع معاصر ، منذ عهد النهضة ، ومروراً بالثورة الصناعية والتكنولوجية ، وإن كانت هذه الفلسفة تجد جذورها الضاربة في العمق الفلسفي ، في الفلسفات التي اهتمت قديما بالآلة ، وبالتقنية عموما . وتهتم فلسفة التكنولوجيا بدراسة آثار العلاقة بين التكنولوجيا والانسان والمجتمع والثقافة والبيئة ، أي تهتم بالمسائل والقضايا والمشكلات العامة للتقنية والآلة ، فما هي إذن الآثار الناجمة عن هذه العلاقات التفاعلية ؟
لا أحد يستطيع أن ينكر ما حققته الثورة الصناعية والتكنولوجية من فوائد للإنسانية . فلقد حررت الانسان نسبيا من خضوعه للطبيعة ، من خلال تمكينه من فهم كثير من ظواهرها ، والسيطرة عليها ، كما مكنته من اقتصاد جهده البشري في الصنع والزراعة والبناء والتعمير والتنقل … وفي توسيع طاقاته وقدراته في فهم الظواهر وتفسيرها والتحكم فيها ، وفي استكشاف الفضاء واستجلاء باطن الأرض . وباختصار شديد لقد ساعدته على تجويد عمله من أجل بلوغ الرفاهية والمتعة في الحياة . بل لقد فتحت شهيته على مصراعيها ، في الحلم والتخيل والابتكار والخلق اللامحدود ، حتى تصور هذا المخلوق نفسه ، هو سيِّد الكون ، وهو مالك زمام أموره ، وتغافل تماما عن الجانب الروحي والوجداني فيه ، الذي يرتبط بالعالم الميتافيزيقي والعالم الغيبي . وعلى الرغم من كل الاكتشافات الهائلة والمذهلة لأشياء كانت غائبة عن الانسان ، فظهرت فجأة أمام عينيه ، ورغم أنها تحيل بشكل من الأشكال على العالمين الميتافيزيقي والغيبي ، إلاّ أنّ الانسان ظل يشكك في هذا العالم ، أو على الأقل يتعامل معه بلا مبالاة وبدون يقين راسخ . لكن مع ذلك لم تحدث هذه الاكتشافات ، ولم تتحقق هذه المنافع دون حدوث كثير من المشاكل والأزمات التي انعكست سلبا على الطبيعة وعلى الانسانية ، وعلى الثقافة والاخلاق . وهذه الانعكاسات السلبية هي التي تهمنا بالدرجة الأولى ، فما هي في مجملها ؟ وكيف حدثت ؟ وهل وقعت بسبب التقدم التكنولوجي في حد ذاته أم بسبب سوء التدبير والتوجيه والاستخدام والتبصر ؟
لقد ساهمت الثورة الرقمية في حدوث كثير من المشاكل ، من ذلك تدمير كثير من الظواهر الطبيعية ، وإلحاق الضرر بالبيئة من خلال ما وقع من تلوث وجفاف وتصحر وارتفاع حرارة وكوارث طبيعية ، ومن تدخل في النظام الطبيعي والجيني للكائنات الحية ، ومن تأثير على النظام المناعي للإنسان ، ومن مختلف ما برز من اختلالات ، الأمر الذي اقتلع الانسان من جذوره وأفقده المكانة الحقيقية التي يجب أن يحتلها في الكون ، وفي المجتمع ، بحيث تحول الانسان إلى عبد للتقنية ، تتحكم في حياته من مختلف الجوانب ، بدلا من أن تحرّره من قيوده كما كان يتوسّم فيها ذلك . فلقد سلبت التقنية الانسان إنسانيته الحقيقية ، فأصبح كائنا مغتربا ، فاقدا لمشاعره الحقيقية ، لا يختلف كثيرا عن منتوجاته الصناعية ، وعلى رأسها الروبوت الذي يجسد قمة الذكاء الاصطناعي . وربما هذا ما عبر عنه كارل ياسبرز بقوله : "التقنية نفي للذات الانسانية" ، أي هي تدمير للإنسان وإبادة له . وربما هذا أيضا ما تعنيه ، وتعبر عنه الفلسفات المعاصرة التي أعلنت موت الإنسان . وأي إنسان بقي في ظل ما يجري في العالم ، وفي مقدمة ذلك ، الإبادة الانسانية المتواصلة في غزة ! فبدلا من أن تحلّ الثورة التكنولوجية مشاكل الانسان ، وتحقّق له ما كانت تستهدفه من رخاء ، ومن تخفيف من مشاقه وأعبائه ، خلقت له عديداً من المتاعب والإكراهات الجديدة ، وكثيراً من المخاطر الوجودية العظيمة ، التي عَمَّقَت مشاكله أكثر ، وزادت في حدّة تأزمه ، كما لاحظ ذلك عديد من المفكرين والفلاسفة ، ومن بينهم فؤاد زكرياء الذي يقول : " الآلة تنتج البؤس بدلا من الثروة والرخاء ". لقد أصبحت التقنية والرقمنة تخلقان من المشاكل والأزمات أكثر مما تحلان بكثير ، وهذا الأمر يبعث الحياة من جديد في سؤال قديم ، طرحه برتراند راسل خلال ستينيات القرن العشرين : أي مستقبل للإنسان في ظل التطوّر التكنولوجي المتسارع ؟
سأكون متشائما كثيراً بقولي ، لا مستقبل للإنسانية في إطار ما تعرفه التكنولوجيا من تقدم هائل مجنون ، لا تحكمه أخلاق ، ولا أديان ، ولا فلسفات ، ولا قواعد ، ولا أعراف ، ولا ضوابط . إن العلم عندما يتحرّر من كل هذه الضوابط الانسانية والأخلاقية ، يغدو شيطانا ماردا ، يُوَسْوِسُ للكائن البشري بأنه يصنع الحضارة ، فإذا به يصنع الخراب ، يدمّر ذاته من الداخل ، ويدمّر محيطه الذي يستحيل عليه العيش خارجه . وقد وصل التشاؤم ببعض المفكرين مثل الفيلسوف السويدي نيك بوستروم ، إلى القول بأن التقدم التكنولوجي الأعمى ، قد يتسبب في انقراض الانسان على سطح الأرض ، أو على أقل تقدير ، يقوده إلى أن يتحوّل إلى مجرد عبد تابع للتكنولوجيا ، لا سيطرة له عليها على الإطلاق ، بل هي التي تسيطر عليه ، وتتحكم فيه ، وتستخدمه طولا وعرضا ، بدلا من أن يستخدمها هو في ما ينفع الانسان ، ويحفظ له كرامته ووجوده ، تماما كما قال بيونغ تشول هان : " الأشياء الرقمية تؤكد أنها بمثابة مخبرين أكفاء ، يراقبوننا ويتحكمون فينا باستمرار " . وقد انتهى التفكير الانساني في هذا الوقت ، إلى محطات بالغة الخطورة في طريق الإنجاز العلمي غير محسوب العواقب ، فالتقدم العلمي يفكر بجدية فائقة في ابتكار ذكاء اصطناعي يحاكي التعبيرات البشرية ، ويرصد مشاعر ونوايا الناس ، بعدما قطع أشواطا هائلة ، في استنساخ الكائنات الحية ، وفي الهندسة الوراثية ، وفي جراحة التحويل الجنسي من ذكر إلى أنثى أو العكس ، وفي كراء الأرحام ، وفي التفنن في ابتكار أسلحة الدمار الشامل … فكيف سيكون حال الانسان إذا ما تَفَوّقَ عليه منتوجه من الذكاء الاصطناعي ، وتجاوزه ، وتحول هو ذاته إلى مُسـيّرٍ ومُدَبِّرٍ ومُوَجِّهٍ له ؟!
قد تكون لهذه المنجزات العلمية فوائد نفعية لا تنكر ، ولكن ما نستغربه ، هو استخدامها الواسع بدون ضوابط عقلية وأخلاقية وإنسانية ، واحتلالها الصدارة في الاهتمام العلمي والتكنولوجي ، بدون مراعاة ما تُخَلِّفُهُ من مساوئ ومخاطر ، وبدون مبالاة بالحاجات الانسانية الأولية ، الحقيقية والملحّة ، مثل القضاء على الفقر والجوع والنزاعات والحروب … إنَّ الأوضاع البشرية في عهد الرقمنة مأساوية للغاية ، في جميع البلدان متقدمة ونامية ، وإنْ كانت في هذه الأخيرة كارثية . إنّني أكادُ أجزم أنَّ ما حذَّر منه الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز ، منذ ستينيات القرن العشرين ، قد تحقق اليوم على نطاق واسع ، أقصد بذلك شيوع الانسان ذو البعد الواحد ، الانسان المشدود فقط إلى الآلة ، والموجّه نحو الاستهلاك المادي ، بلا روح ، ولا ضمير ، ولا بعد أخلاقي وثقافي وميتافيزيقي . ويبدو أنّ العلم الذي خرج من أحشاء الفلسفة ، قد تنكر لأمه ، ودخل في نوع من العقوق ، كانت من نتائجه هذه المصائب التي تعيشها الآن الإنسانية . إنَّ التضييق على الفلسفة في المدارس ، وفي ميادين الحياة ، وفي الفضاءات العمومية ، الواقعية منها والافتراضية ، ساهم إلى حدٍّ بعيد في إنتاج هذا الانسان غير المتبصّر ، الاستهلاكي ، الذي يتلقى ويستقبل فقط ، بدون فهم حقيقي عميق ، وبدون تساؤل ، ولا نقد ، ولا تحليل ، ولا تمحيص … وهذه الأدوات العقلية ، هي أدوات فلسفية بامتياز شديد . ولماذا الفلسفة هي وحدها التي يمكن أن تضطلع بهذه المهام الإنسانية ، التنويرية والتوجيهية ؟
أوّلاً ، لأن الفلسفة تقف وراء كل أشكال التفكير وفي جميع مرافق الحياة . وثانيّاً ، لأنها تحضر في مختلف مجالات العلوم والتقنية ، وبالخصوص في إطار ما يعرف بالفروض العلمية ، لأنّ العقل العلمي يُفَكِّرُ تحت غطاء التأمل الفلسفي . وثالثا ، لأنّ الفلسفة يمكن أن تمارس من طرف العلماء أنفسهم ، كل في مجال تخصّصه ، في تسليط الأنوار والأضواء الكاشفة ، على تاريخ العلم ومبادئه وأسسه وفروضه ومناهجه ونظرياته ونتائجه وأهدافه وآفاقه … وعلى كل ما يتعلق به ، واضعة نصب عينيها ما هو في مصلحة الانسان ، وما يحمي حقوقه ، ويضمن عيشه الكريم ، واستمرارية نوعه في الوجود . كل ذلك بالتفاعل مع الثقافات الانسانية والشرائع الإلهية والقيم الأخلاقية الفاضلة ، من تسامح وعدالة واحترام للاختلاف والتنوع . فالفلسفة هي التي تُؤَطِّرُ الوعي العلمي ، وتُشَكِّلُ المُوَجِّهَ المُتبصّر الأمثل له . والفلسفة لكي تحافظ على علاقتها بالعلوم ، ولكي تُجدّد مهامها بما يتناسب مع عصر العولمة والرقمنة ، عليها أن تخترق الفضاءات العمومية ، وخاصة منها الفضاء الأزرق الافتراضي ، وأن تؤكد حضورها في كل ما يدور ويجري في هذه الفضاءات ، بما تتوفر عليه من أدوات العقلنة والحوار والتفاهم والتفاعل والتشارك والتعايش ، ضد كل أشكال الاغتراب والتضاد والتناقض والعنف والتسليع والرقمنة الفاحشة والمفرطة . إنَّ التكنولوجيا في حدِّ ذاتها محايدة ، بل هي سيف ذو حدّين ، تستخدم للبناء بمثل ما تستخدم للهدم . وهذا معناه أنّ الإنسان صانع التكنولوجيا ومستخدمها ، هو الذي يتحمل المسؤولية الكاملة ، في كل ما يخلّفه استخدام التقنية ، من فوائد وأضرار . ولعل هذا الوجه المزدوج للتقنية الرقمية ، هو الذي قصده ريمي ريفيل بقوله : " بعيداً عن كل القيود ، فعالم التكنولوجيا الرقمية يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه ، وفي كل الأحوال فإنه لايزال في الوقت الراهن وعداً وتحديا " . وهذا القول يتضمن كثيرا من الأبعاد التي يمكن الإشارة إلى بعض منها ، من خلال التساؤلات التالية ، المفتوحة على كل الاحتمالات المتعلقة بمدى وعي الإنسان بانتاج التكنولوجيا وتبصّره باستعمالاتها : هل تقود الوضعية الراهنة ، المتأزمة والكارثية ، إلى حدوث صحوة فلسفية ، تستعيد فيها الفلسفة مشعلها السقراطي ، فتغزو بأسئلتها الهادفة مختلف مرافق الحياة ، في رحلة ديوجينية ، حاملة مصباحها المضيء في واضحة النظر ، بحثا مستمرا ومتواصلا ، عن قليل من أشلاء الحقيقة ، الغائبة ، البعيدة والمُبعدة ؟! بأي معني يمكن الحديث عن ثورة علمية أو رقمية في غياب الفلسفة ؟! إلى أيّ مدى حرّرت التكنولوجيا الانسان : أَلَمْ تفكّ بعض قيوده الطبيعية ، وأوثقت أغلاله التقنية ، وشدّدت أصفاده الرقمية ؟! هل يمكن أن تتولّى الأنظمة التقنية إنجاز جميع الأعمال البشرية ، بما في ذلك التفكير ذاته ، الذي يعدُّ الخاصية الجوهرية للإنسان ؟! أَلاَ تسير وسائل التواصل الاجتماعي في طريق تضييق مهارات التفكير ، وترسيخ آليات الاستقبال السلبي ، والتلقي الميكانيكي ، والقولبة والتحجيم الذهنيين ، وبرمجة العقل الباطني اللاواعي على كل ذلك ؟! وفي ظلّ هذا التسابق التكنولوجي الرقمي ، من سيصبح أكثر ميكانيكية : الانسان الفعلي أم الانسان الآلي ؟؟!
منقول
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩