قصة "مجنون الست"أم كلثوم
الراجل بتاع عظمة على عظمة ياست- الحاج حافظ الطحان و زوجته
.
نشأ "الطحان" في أسرة ميسورة الحال تسكن حي باب الشعرية؛ حيث رافق والده في حانوته الصغير، فلم يتسنى له تعلم القراءة والكتابة، غير أن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد "سافر كل محافظات مصر وتاجر في الغلال والزيوت"، توسعت تجارته، امتلك وكالة كبيرة بشارع بين السورين، فبات مؤهلًا للزواج "اتجوز زينب هانم الدسوقي.. كانت من شبرا"، أرادا إنجاب طفل يحمل اسمه لكن "ربنا ما أرادش أنه يخلف"، فاتخذ من إمام - ابن نجلة شقيقته - ولدًا.
رغم انهماك حافظ في تجارته، اعتاد منذ ثلاثينات القرن الماضي حضور حفلات "أم كلثوم"، في الصف الأول رفقة زوجته؛ يتفاعل مع كل كلمة تنطق بها، يهزج مع الموسيقى، يطلب بالإعادة، فيفعلوا؛ كأنهم يتواجدون خصيصًا له، حتى ذاع صيته وسط الحضور وكذا "أم كلثوم عرفته لأنه كان بيروحلها كل الحفلات لحد ما نشأت بينهم علاقة صداقة"، يحكي عنها طويلًا لـ "إمام" الذي لازمه طيلة فترة طفولته وصباه.
ذكاء اجتماعي تحلى به "الطحان" على بساطته، جعله يفتح نقاشًا بينه والشاعر "أحمد رامي"، لجلوسهما متجاورين بالصف الأول، وذلك قبل أن تعتلي أم كلثوم خشبة المسرح، حتى تحول النقاش إلى عادة يحرص عليها رامي بعد انتهاء الحفل "كان يحكيلي إن أحمد رامي بعد الحفلة يقوله إيه رأيك يا حاج حافظ"، لم يصدق الشاب الصغير "إمام" وقتها ما يُقال، لكنه اعتاد سماعه أثناء تدوينه حسابات الوكالة بناءً على ما يُمليه عليه "الطحان"، حتى جاءت اللحظة ليرى بعينيه وهو في السادسة عشرة "لقيته بيقولي إيه رأيك تيجي تحضر حفلة للست".
ولم تحن هذه اللحظة سوى مطلع نوفمبر 1964؛ ظل حافظ ليلتها يتحدث عن الحدث الفريد الذي ينتظر المصريين في مسرح حديقة الأزبكية، ولم يكن هذا الحدث سوى التعاون الأول بعد انتظار طويل بين القامتين "أم كلثوم" و"محمد عبدالوهاب" في أغنية "انت عمري"، يسهب في الحديث عنه أثناء قيادته لسياراته الجاجوار السوداء، غير أنه ما أن وطأت قدماه أرض المسرح تحول شخصًا آخر.
"محدش كان يقدر يكلمه.. يركز مع الأغنية والمقطع اللي يعجبه يقولهم عيدوا تاني"، يغرق في المعاني، تتوغل في روحه، تسبر أغواره، فتتجلى على ملامحه ثم يترجمها في انفعالاته "لقيته قام مرة واحدة وقال بصوت عالي عظمة على عظمة ياست"، وذلك بعدما التقطتها أذنيه من الموسيقار "محمد عبدالوهاب" الذي نطق بها ما إن بدأ عزف آلة الكونترباص التي أُشركت لأول مرة في أغاني الست "عبدالوهاب قال عظمة على عظمة على عظمة، فأول ما غنت أم كلثوم هو ردد الكلمة بس لها".
لفت "الطحان" انتباه جميع الحضور بالحفل بعدما ردد الكلمة التي ظل يرددها حتى اختفى أثره من حفلات أم كلثوم، لا للكلمة التي ظل يرددها في كل حفلاتها وإنما لزيه وهيئته التي تشي بأنه تاجرًا أو فلاحًا بسيطًا "قعدت جنبه أكتر من مرة في الصف الأول بعد ما كان الشاعر أحمد رامي ما يقدرش يكمل الوصلة التالتة من الحفل ويديني تذكرته، وكنت عارف أنه اسمه حافظ الطحان وإنه تاجر
تمتع الطحان بميزة خاصة لدى الست من بين جميع جمهورها الذين باتوا يعرفون التاجر العاشق لفنها "كان مشهور بأنه السمّيع الأول لأنه حضر حفلاتها من التلاتنيات لحد الستينات"، لكن لم تتح لـ"صالح" الفرصة لفتح حديث معه داخل الحفلة " كان بيفضل سارح في الغنى ويدندن ويردد كأنه مش معانا"، حتى ينتهي الحفل، فيهرول في أذيالها ليصافحها كعادته، فما أن يفعل "كنت بحسه كأنه حقق أكبر إنجازاته في الحياة".
لم تكن علاقة "حافظ الطحان" بـ "أم كلثوم" تقتصر على المسرح والحفلات، وإنما توطدت أواصرها حتى باتت تزور زوجته في بيتها، فترد شقيقة "أم كلثوم" وبناتها الزيارة في بيت "باب الشعرية" "لسه فاكرة زينب هانم الدسوقي لما كانت تيجي بيت الست.. كانت شيك وعندها ذوق في اللبس والكلام، وملامحها كأنها أجنبية، عشان كدة كنا بندلعها ونقولها يا سكر"، تحكي "نادية الكاشف" ابنة شقيقة أم كلثوم لـ"مباشر بلس".
ما زالت "نادية الكاشف" تتذكر زوجة "حافظ" بمزيد من التأثر، لرقتها وعذوبة حديثها، وتعاملها الحاني مع الأطفال، نظرًا لأنها لم تنجب أطفالًا حتى وفاتها "كانت ست طيبة أوي"، لا تختلف كثيرًا عن زوجها الذي أحب "أم كلثوم" فقدرته حق قدره "كانت الست دايمًا تناديه بالحاج حافظ، ولما يكون مزاجها حلو تقوله حافظ بس".
وصلت أصداء تلك العلاقة إلى الصحافة، فاستعانت مجلة "الكواكب" به أثناء إعدادها ملفًا خاصًا عن أم كلثوم في نوفمبر 1962،؛ إذ أطلقت عليه "سمّيع الصف الأول"، الذي يواظب على حضور حفلات الست تاركًا وكالة الغلال الخاصة به والقابعة في بين السورين، لتحدث بعض المواقف التي ظلت مسار تندر بين الحضور، ففي إحدى الاستراحات بين الوصلات الغنائية لأم كلثوم هب لسؤالها عن الأغنية التالية، فردت بصوت عالٍ "يا ظالمني يا حاج حافظ" فيسأل مندهشًا "ظالمك في إيه يا ست هانم"، ليضج المسرح كله بالضحك، وفقًا للصحفي الراحل "سيد فرغلي".
م يمتنع تاجر الغلال عن حفلات "أم كلثوم" إلاّ بعد توقفها عن عمل حفلاتها في مصر، عقب حدوث نكسة 1967؛ لقيامها بعمل حفلات غنائية في الخارج، لتخصيص إيرادها للجيش المصري للمساهمة في إعادة بنائه "لكنه كان بيروح يودعها في المطار"، حتى داعبته "كوكب الشرق" أثناء وقوفه بين سورين بساحة المطار القديم للتلويح لها قائلة "أنت جاي من بين سورين واقف بين سورين"، وفقًا لمجلة المصور.
ومثلما بنى علاقات محببة مع نظرائه في المسرح، كانت علاقته بأسرته وطيدة، يحظى بحب واحترام الجميع، لا يتوقف عن زياراتهم ومودتهم، يغدق عليهم بمساعدته، فلا يتوقفون عن تقديره وانتظاره من زيارة إلى أخرى "العيلة كلها كانت بتعمله ألف حساب وكان هو الكبير بتاعنا"
.
سارت حياة "حافظ الطحان" كما أراد لها أن تسير، حتى انقلبت رأسًا على عقب بوفاة زوجته نهاية الستينيات، انطوى على ذاته، سكن الحزن أحشائه، فلم يطق المكوث في منزل "باب الشعرية" فاتخذ قراره بالرحيل "سكن في شقة جنب الوكالة في شارع بورسعيد"، لكن فواجع القدر لم تقف عند هذا الحد "كان مريض سكر أصلًا فلما حزن على مراته جاله بعدها جلطة"، فلم يتحمل أكثر من ثلاث سنوات حيث انتقل إلى جوار ربه وهو على مشارف الـ 74 ربيعًا عام 1972 في هدوءٍ، مُخلفًا وراءه حبًا كبيرًا هال كل من عرفه عن قرب... إنها قصة "مجنون الست".
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩