ملامح علوم مصطلح الحديث من مقدمة صحيح الإمام مسلم
خبَّاب بن مروان الحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد:
في كتب المُحدّثين الأوائل إشارات منهجيّة عميقة تأسس عليها البناء الحديثي؛ واستند علماء المصطلح عليها؛ ومنها: مقدمة صحيح الإمام مسلم؛ فهي ليست كأيّة مقدمة لكتابٍ علمي؛ بل حوت مقدمته موضوعات حديثية كثيرة، وقد يُعيد الكلام فيها بدون ترتيب محدد؛ أو وحدة موضوعية؛ على أنّها تحمل في دلالاتها ومنطوقها موضوعات مختلفة في علم مصطلح الحديث وأصوله؛ مما يحتاج فيه المرء لمعرفة كلام المُحدّثين المتقدّمين لهذه العلوم؛ خاصّة وأنّ الغالب المنتشر كتابات علم المصطلح المتأخرة.
ولتقريبِ معاني هذه المقدمة فقد حاولتُ خدمتها المقدمة بعناوين مفيدة، وموضوعات محورية؛ تدور عليها منهاج المُحدّثين وأبحاثهم؛ لهذا استدعى الأمر مطالعتها مراراً؛ مع اختصارها وإزالة أوجه التكرار التي فيها، واستبعاد أسماء العلماء الذين يكثر ذكرهم في المقدمة، فضلاً عن أنّ هذه المقدمة تفيد قارئ صحيح الإمام مسلم، وتعطيه قدرة على فهم مُرادات الإمام مسلم في صحيحه في مواطن عدّة؛ يحتاج إليها المرء في تحليل موقف الإمام مسلم من ذكر بعض الأحاديث.
وسأضع العنوان المتعلق بالعِلْمِ الحديثي بين قوسين، (...) ومزيداً من توضيحِ مراده قمت بتضخيم بُنْط العنوان بين القوسين؛ ثم أضع تحته ما يُناسبه من كلام الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
(ضبط الصحيح هو الُمقدَّم ولا عبرة بغيره)
فالقصد منه إلى الصحيح القليل، أولى بهم من ازدياد السقيم.
(إيراد الحديث المعلول بعد الحديث الصحيح بيان علّته)
وثلاث طبقات من الناس، على غير تكرار، إلا أن يأتي موضعٌ لا يُستغنى فيه عن ترداد حديثٍ فيه زيادةُ معنىً، أو إسنادٌ يقع إلى جنب إسناد، لِعلةٍ تكون هناك.
(تقطيع الحديث إن كثرت موضوعاته فكل موضوع منه يقوم مقام حديث تام)
المعنى الزائد في الحديث، المحتاج إليه، يقوم مقام حديث تام. فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة.
(تقديم الحديث أهل الحفظ الصحيح السالم من العيوب)= (رواية الأصول)
فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا. لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد. ولا تخليط فاحش. كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين. وبان ذلك في حديثهم.
( حديث الصدوق في منزلة الاحتجاج بعد حديث الثقة)
فإن نحنُ تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعنا أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان. كالصنف المقدم قبلهم. على أنهم، وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم ، من حمال الآثار ونقال الأخبار.
فهم بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة. لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية.
ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم، عطاء ويزيد وليثا، بمنصور بن المعتر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد، في إتقان الحديث و الاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم. لا يدانونهم لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك. للذي استفاض عندهم من صحة الحديث عند منصور والأعمش وإسماعيل. وإتقانهم لحديثهم. وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث.
وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران، كابن عون وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين. كما أن بن عون وأيوب صاحباهما.
. إلا أن البون بينهما وبين هاذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل. وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم. ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم.
( كُل مُحدّث له منزلته )
وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية، ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه. فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته. ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته. ويعطي كل ذي حق فيه حقه. وينزل منزلته.
(المتّهم لا يُلتفت لأحاديثه)
فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون. أو عند الأكثر منهم. فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم. كعبدالله بن مسور أبي جعفر المدائني. وعمرو بن خالد، وعبدالقدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار.
(الإمساك عن قبول حديث المنكر)
وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، أمسكنا أيضا عن حديثهم.
(علامة الحديث المنكر)
وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عرضت روايته للحديث عن رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم. أو لم تكد توافقها. فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبولة ولا مستعمله.
(من كثرت مناكيره لم يُلتفت إلى رواياته)
فمن هذا الضرب من المحدثين عبدالله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبدالله بن ضميرة، وعمر بن صهبان. ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث. فلسنا نعرج على حديثهم. ولا نتشاغل به.
(قبول رواية الفرد الثقة)
حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا. وأمعن في ذلك على الموافقة لهم. إذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه، قبلت زيادته.
(تفرد الشذوذ)
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره. فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس.
(ذم رواية الضعيف المُنكر)
الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا، فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة، مما نقله الثقات المعروفين بالصدق والأمانة. بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم، أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين، ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث. مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة - لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل.
(صيانة الحديث الصحيح من المُنكرات ببيانها)
من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها، خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت.
(شرطا التثبت في الرواية الحديثية)
الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها. و ثقات الناقلين لها، من المتهمين. أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه. والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها من أهل التهم والمعاندين. من أهل البدع.
(حكم رواية الساقط)
قول الله جل ذكره: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}. وقال جل ثناؤه: {ممن ترضون من الشهداء}. وقال عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. فدل بما ذكرنا من هذه الآي - أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة.
(علاقة الراوية الحديثية بالشهادة)
والخبر، وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما. إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم. كما أن شهادته مردودة عند جميعهم.
(حكم رواية المنكر من الأخبار)
دلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار؛ كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق. وهو الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حدث عني بحديث يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
(التحري للسنة وعدم رواية كل ما سمع)
حدثنا محمد بن المثنى. قال: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: لا يكون الرجل إماما يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع.
وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا عمر بن علي بن مقدم، عن سفيان بن حسين؛ قال: سألني إياس بن معاوية فقال: إني أراك قد كلفت بعلم القرآن. فاقرأ علي سورة. وفسر حتى أنظر فيما علمت. قال ففعلت. فقال لي: احفظ علي ما أقول لك. إياك والشناعة في الحديث فإنه قلما حملها أحد إلا ذل في نفسه. وكذب في حديثه.
(النهي عن رواية الضعفاء والاحتياط في تحملها)
ذكر عدة روايات منها: رواية ابن عباس؛ قال: إنما كنا نحفظ الحديث. والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول، فهيهات.
(أهمية دراسة السند)
نقل رواية عن ابن سيرين؛ قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد. فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
ورواية عن ابن المبارك أنّه يقول: الإسناد من الدين. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
(للحديث شروط في الضبط مزيداً عن شرط العدالة)
نقل عن ابن أبي الزناد، عن أبيه؛ قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون. ما يؤخذ عنهم الحديث. يقال: ليس من أهله.
(عدم قبول رواية المرسل)
قال محمد: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني؛ قال: قلت لعبدالله بن المبارك: يا أبا عبدالرحمن! الحديث الذي جاء "إن من البر بعد البر، أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك" قال فقال عبدالله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال قلت له : هذا من حديث شهاب بن خراش. فقال: ثقة. عمن؟ قال قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة. عمن؟ قال قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز، تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف.
(الرواية لا تكون إلا عن الثقات)
حدثنا عمر بن علي، أبو حفص. قال: سمعت يحيى بن سعيد. قال: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكا وابن عيينة، عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث. فيأتيني الرجل فيسألني عنه. قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثبت.
(تترك الرواية عمن يكذب في الحديث وإن كان راويه لم يتقصّده )
حدثني محمد بن أبي عتاب. قال: حدثني عفان، عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، عن أبيه، قال: لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث.
قال ابن أبي عتاب: فلقيت أنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان، فسألته عنه. فقال عن أبيه: لم تر أهل الخير في شئ، أكذب منهم في الحديث.
قال مسلم: يقول: يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب.
(التحذير من رواية الكذابين وتعيينهم بالاسم)
وحدثني عبيد الله بن سعيد. حدثنا عبدالرحمن، يعني ابن المهدي. حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون؛ قال: قال لنا إبراهيم: إياكم والمغيرة بن سعيد، وأبا عبدالرحيم. فإنهما كذابان.
وحدثنا محمود بن غيلان. حدثنا أو داود. قال: قال لي شعبة: إيت جرير بن حازم فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة. فإنه يكذب.
قال حدثنا نعيم بن حماد. حدثنا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يونس بن عبيد؛ قال: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث.
(رد الحديث الموضوع ولو كان معناه حسناً)
حدثنا عثمان بن أبي شيبة. حدثنا جرير، عن رقبة؛ أن أبا جعفر الهاشمي المدني كان يضع أحاديث الناس. كلام حق. وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(إذا كان الراوي يُكثر من رواية الحديث وهو متهم في دينه وعدالته فلا يؤخذ عنه)
حدثني سلمة. حدثنا الحميدي. حدثنا سفيان. قال: سمعت جابرا – يقصد الجعفي - يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث: ما أستحل أن أذكر منها شيئا، وأن لي كذا وكذا.
(الحديث الغريب الذي لا أصل له لا يحتج به ولا يُجالس صاحبه)
حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري. حدثنا حماد بن زيد. قال: كان رجل قد لزم أيوب وسمع منه. ففقده أيوب. فقالوا: يا أبا بكر إنه قد لزم عمرو بن عبيد. قال حماد: فبينا أنا يوما مع أيوب وقد بكرنا إلى السوق. فاستقبله الرجل. فسلم عليه أيوب وسأله. ثم قال له أيوب: بلغني أنك لزمت ذاك الرجل. قال حماد: سماه، يعني عمرا. قال: نعم. يا أبا بكر إنه يجيئنا بأشياء غرائب. قال يقول له أيوب: إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب.
(ترك الأخذ عن مجالسي المبتدعة)
حدثني حجاج. حدثنا سليمان بن حرب. قال: سمعت سلام بن أبي مطيع يقول: بلغ أيوب أني آتي عمرا. فأقبل علي يوما فقال: أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟
(كتابة بعض الأحاديث للاعتبار)
حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي. أخبرنا زكرياء بن عدي. قال: قال لي أبو إسحاق الفزاري: اكتب عن بقية ما روي عن المعروفين. ولا تكتب عنه ما روي عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روي عن المعروفين، ولا عن غيرهم.
(قدح الرواة ليس غيبة بل صيانة للحديث)
حدثني عمرو بن علي وحسن الحلواني، كلاهما عن عفان بن مسلم. قال: كنا عند إسماعيل بن علية. فحدث رجل عن رجل. فقلت إن هذا ليس بثبت. قال فقال الرجل: اغتبته. قال إسماعيل: ما اغتابه ولكنه حكم: أنه ليس بثبت.
(كتابة الثقات في كتب الإمام مالك)
وحدثنا أبو جعفر الدارمي. حدثنا بشر بن عمر. قال: سألت مالك بن أنس، عن محمد بن عبدالرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن أبي الحويرث؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن شعبة الذي روي عنه ابن أبي ذئب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن حرام بن عثمان؟ فقال: ليس بثقة. وسألت مالكا عن هؤلاء الخمسة؟ فقال: ليسوا بثقة في حديثهم. وسألته عن رجل أخر نسيت اسمه؟ فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي.
(التمييز في كتابة أحاديث رواة عن رواة)
قال الحسن بن عيسى : قال لي ابن المبارك: إذا قدمت على جرير فاكتب علمه كله إلا حديث ثلاثة. لا تكتب حديث عبيدة بن معتب. والسري بن إسماعيل. ومحمد بن سالم.
(سبب الكشف عن معايب رواة الحديث)
قال مسلم: وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث. وناقلي الأخبار. وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر. إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب. فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة. ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره، ممن جهل معرفته، كان أثما بفعله ذلك. غاشا لعوام المسلمين. إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار التي يستعملها، أو يستعمل بعضها. ولعلها أو أكثرها أكاذيب. لا أصل لها. مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات. وأهل القناعة أكثر من يضطر إلى نقل من ليس بثقة. ولا مقنع.
(كثرة رواية الحديث الغريب للتكثر عند العوام سبب في طعن حديثه وتسميته جاهلاً)
قال مسلم: ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها، من التوهن والضعف - إلا أن الذي يحمله على روايتها، والاعتداد بها، إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث، وألف من العدد.ومن ذهب في العلم هذا المذهب. وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه. وكان بأن يسمى جاهلا، أولى من أن ينسب إلى علم.
(الإعراض عن حكاية الأقوال الباطلة أحرى لإماتتها؛ إلاّ إذا خشي الاغترار بها فيجب إبطالها)
وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقول، لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحا - لكان رأيا متينا، ومذهبا صحيحا؛ إذ الإعراض عن القول المطروح، أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله وأجدر ألا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد - أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
(حكم رواية المعنعن من الثقة)
قال مسلم : القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة. والحجة بها لازمة
(إذا وردت دلالة قاطعة بعدم سماع الراوي عن مثله ولقاءه فلا يصح الاحتجاج بها)
قال مسلم: إلا أن يكون هناك دلالة بينة، أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئا. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدا، حتى تكون الدلالة التي بينا.
(حجية خبر المرسل)
قال مسلم: والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة.
(خطأ مسلك تعليل ما ليس علّة)
نقل مسلم عن بعضهم قوله: فلما رأيتهم استجازوا رواية الحديث بينهم هكذا على الإرسال من غير سماع، والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة - احتجت، لما وصفت من العلة، إلى البحث عن سماع راوي كل خبر عن راويه. فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء، ثبت عنه عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد. فإن عزب عني معرفة ذلك، أوقفت الخبر ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه.
ثم قال مسلم: فيقال له: فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه، لزمك ألا تثبت إسنادا معنعناً حتى ترى فيه السماع من أوله إلى آخره؟ وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقين نعلم أن هشاما قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة. كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم.
(واردٌ إرسال الثقات لمن سمعوا عنهم أن يقعوا في العنعنة)
قال مسلم : وإن كان قد عرف في الجملة أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعا كثيرا، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه، ثم يرسله عنه أحيانا، ولا يسمي من سمع منه. وينشط أحيانا فيسمي الرجل الذي حمل عنه الحديث ويترك الإرسال.وذكر على ذلك أمثلة منها:روى الزهري وصالح بن أبي حسان، عن أبي سلمة، عن عائشة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم.فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن؛ أن عمر بن عبدالعزيز أخبره أن عروة أخبره أن عائشة أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم.
(عدم رد رواية الثقة الذي يروي بالعنعنة ولم يُعرف له سماع)
ذكر أمثلة عليها: من ذلك أن عبدالله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري وعن كل واحد منهما حديثا يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وليس في روايته عنهما ذكر السماع منهما. ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبدالله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط. ولا وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها، ولم نسمع عن أحد من أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا، أنه طعن في هذين الخبرين، اللذين رواهما عبدالله بن يزيد عن حذيفة وأبي مسعود، بضعف فيهما. بل هما وما أشبههما، عند من لاقينا من أهل العلم بالحديث، من صحاح الأسانيد وقويها. يرون استعمال ما نقل بها، والاحتجاج بما أتت من سنن وأثار.
(نقاد الحديث يتفقدون أحاديث الراوي إذا عُرف بالتدليس واشتهر به)
قال مسلم: وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم - إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به. فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته. ويتفقدون ذلك منه. كي تنزاح عنهم علة التدليس: فمن ابتغى ذلك من غير مدلس، على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نسم، من الأئمة.
(قبول المحدّثين للحديث ممن لم يُعرف عنهم سماع في رواية بعينها)
فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم، لم يحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها ولا أنهم لقوم في نفس خبر بعينه.وهي أسانيد عند ذوي المعرفة بالأخبار والروايات من صحاح الأسانيد. لا نعلمهم وهنوا منها شيئا قط. ولا التمسوا فيها سماع بعضهم من بعض.إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر. لكونهم جميعا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه.
(مناقشة قول من يشترط ثبوت اللقاء في الحديث المعنعن ولو لمرّة ولا يكتفي بثبوت المُعاصرة وإمكان اللقي)
ذكر عدّة جوانب في مناقشة هذه الشبة أو العلّة العليلة؛ ملخصّها:
1- قول مُحدث لم يقل به النّقاد.
2- قبول الأئمة للحديث المعنعن إن أمكن اللقاء وأُمِنَ التدليس ولم تكن في السند علّة.
3- هذا الشرط لم يُشترط من قبل فلا عبرة به.
4- يلزم من يشترطه أن يثبت سماع الحديث من أوله لمنتهاه كي لا يكون فيه عنعنة.
5- قد يُرسل الراوي عمّن سمع منه شيئاً لم يسمعه؛ كما يقوم بإرساله عن معاصره الذي لم يلقه.
مُلاحظة نُشر هذا المقال في موقع المسلم
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩