زواج الصغيرة
محمد جلال القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
زواج الصغيرة
إلى وقت قريب لم يكن أحد ينكر زواج المرأة حين تبلغ، أيا كان سنها، فقد كان هدي القرون الأولى أن تتزوج من تصلح للزواج حين يأتيها من ترضاه أو يرضاه ولي أمرها ولا تعترض عليه، كان صغيراً أم كان كبيراً.
لم يكن يهم غير أن تكون صالحة للزواج وأن ترضى بمن جاءها متزوجاً، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في التاسعة من عمرها، ولم يشجب أحد من أعدائه عليه بربع كلمة، وتزوج الأشعث الكندي من بنت أبي بكر وهو أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في عمر عائشة رضي الله عنها.
وفي كتاب النصارى أن دواد عليه السلام حين كبر سنه بحثوا له عن صغيرة تدفئه، والسيدة العذراء حملت بالمسيح عليه السلام وهي في الحادية عشر من عمرها.
وإلى وقتٍ قريب كانت النساء يتزوجن فقط حين يصلحن للزواج، ولا أحد يسأل عن سنها، بل يحبونها صغيرة.
ماذا حدث؟
جاءت العلمانية (ليبرالية، وديمقراطية، واشتراكية،...) وفرضت تصوراتها على واقع الناس فسوَّت بين الرجال والنساء في كل شيء، وهما كائنان منفصلان لكل منهما خصائصه النفسية والجسدية، وكل منهما يصلح لمهمة غير التي يصلح لها الآخر، والعلاقة تكاملية.
فرضت العلمانية تصوراتها وآلياتها على الناس، فغيرت من طباعهم، فأصبحت المرأة والرجل يسيران في خط واحد (التعليم النظامي)، ولا يستقل أيا منهما بشخصيته إلا بعد أن يتم تعليمه، وبالتالي ينصرف لتأسيس بيته بعد أن مرور ربع قرن على الأقل من عمره, وحين استقرت هذه الأعراف ظن الناس أن شيئًا غير هذا الذي يرونه لم يكن!!
من هنا جاء النكير على زواج المرأة حين تصلح للزواج، وقالوا "زواج مبكر".."زواج أطفال".."إتجار بالنساء"!!
وزاد الطين بلة ظهور ما عُرف بالمنظمات الأهلية الدولية التي تقدم رؤية بشأن الأسرة، وتتحدث هي الأخرى بأغرب ما قد قيل عن الإنسان (ذكر وأنثى)، وتقف في وجه الفطرة الإنسانية, وحاولت فرض مفاهيمها وتصوراتها الخاطئة كمسلماتٍ علينا؛ يقولون: المرأة طفلة حتى تبلغ الثامنة عشر من عمرها، وقاتَل هؤلاء في المؤتمرات والمنظمات العالمية حتى أرغموا غير قليل من حكومات المسلمين على موافقتهم على قولهم.
تقول الدراسات التي يقدمونها على حسب ما ورد على لسان أحد المختصات في برنامج متلفز مع محمود سعد ما مفاده أن المرأة إذا تعرضت للعملية الجنسية قبل بلوغ الثامنة عشر من عمرها فإنها تتحول لشخصية جنسية التوجه، لا تعرف غير الجنس، فلا تدرس ولا تتعلم ولا تعمل، فقط حالة جنسية؛ بل وتصبح صلبة التفكير لا تميز بين البدائل، ولا الأشياء المتقاربة، وسطحية لا تفهم شيئًا!! ثم تفرع على هذا وتقول: فيضحكون عليها، ويأخذون ميراثها بشيء زهيد يقدمونه لها كهدية، وتشير إلى أن هذا هو المطلوب من زواج الصغيرات.. الضحك عليهن وأخذ أموالهن!!
ومثل هذا الكلام يصلح للنكت وأحاديث السمر، ولكن دعنا نأخذ الأمر على محمل الجد:
المرأة في أوروبا تمارس الجنس مبكراً، ففي بريطانيا تبدأ ممارسة الجنس في الصف الثالث الابتدائي كما تقول التقارير المنشورة على موقع (بي بي سي)، وتبدأ حالات الإجهاض في المرحلة المتوسطة، وقلَّ بينهن من تحتفظ بعذريتها بعد المرحلة المتوسطة، وقد كانت النساء في الأجيال السابقة يتزوجن مبكراً ويقمن بحاجة الزوج، ويخرجن للمجتمع رجالاً ونساء صالحين وصالحات, ولم نسمع أن ممارسة الجنس قبل الثامنة عشر تصيب النساء بحالة من "البَلَهْ" كما تقول هذه.
والقول بأن سبب الزواج المبكر هو الضحك على النساء لأخذ ميراثهن قول ساذج يستدعي الضحك من الأعماق، فليس كل ممن تتزوج صغيرة يتيمة ذات ميراث، بل غيرها يقول بعكس ذلك يقول: بأن الصغيرة يضحك عليها بالمال!!
وكله كذب!
فلم يطالب أحد بزواج الأطفال (القصَّر) ممن لا يعرفون شيئاً عن المعاشرة الزوجية، وإنما هؤلاء يتحدثون عن صورة وهمية في ذهنهم هم وحدهم، فما يقال هو أن تتزوج المرأة حين تصلح للزواج أيّاً كان عمرها؛ والحديث في أن تراعى الأعراف والتقاليد ولا يساق الناس على ما لا يوافق عاداتهم وتقاليدهم فضلاً عما يخالف دينهم.
والاعتراض على تأخير سن الزواج سببه أن تأخر الزواج أدى إلى إشاعة الفاحشة بين الناس، وخاصة مع انتشار دواعي الشهوة الجنسية.
والاعتراض على السياق الذي أحد مفرداته (أو أحد أدواته) تأخير سن الزواج، وهو ما تنادي به المنظمات الأهلية وتحاول فرضه علينا، فهؤلاء يملكون تصوراً مستقلاً عن الأسرة يتصادم مع مفاهيم الإسلام وتصوراته؛ يطلقون العنان للشهوة يقضيها مَن شاء متى شاء حيث شاء، ويتزوج الرجل الرجل، وتتزوج المرأة المرأة، ويلتقي الرجل والمرأة في بيت واحدٍ بلا زواج وبلا مسؤولية عن تبعات اللقاء من أطفالٍ ونفقة.
إن الذين ينادون بالزواج المبكر في حقيقة أمرهم يقومون بعمل تغيرات جذرية في المجتمع لا نقبلها، كونها تتصادم مع ثوابتنا الشرعية، وكونها فشلت في بلاد الغرب، أو قدمت نموذجاً لم يوفر للناس مطلبهم الرئيسي (السعادة)، ولا شيدت مجتمعاً مستقراً بل مجتمعاً مقطع لا يعرف برَّاً ولا صلة رحم.
وإن النموذج الإسلامي عطرٌ مشرق؛ لا يتجه للصغيرة الجميلة يغرر بها حتى تتزوج كهلاً أحدب يسير على ثلاثٍ، بل يتجه لكل النساء يكرمهن بالزواج من الكفء حين تصلح للزواج وترغب فيه، فلا تزوج مَن لا تصلح للزواج، ولا تُزوج امرأة وهي كارهة، ومن وقعت في غير كفء أو تضررت من زوجها تستطيع بسهولة أن ترفع أمرها للقاضي وتخلعه، وتذهب حيث تشاء، فتزويج المرأة صغيرة جزء من منظومة مشرقة في التصور الإسلامي بعكس المنظومة العلمانية الموجودة الآن.
إن هؤلاء المتحدثون برفض الزواج المبكر المطالبون برفع سن الزواج كذبة، يخالفون الفطرة، ويسيرون -دَرُوا أو لم يدروا- في سياق عالمي مرفوض، وإنهم قلة، وما كان للقلة أن تحدد المسار وتمسك بالزمام، وتسير بالركب حيث تشاء.
محمد جلال القصاص
5/ 10/ 2012 م