فضل التوحيد و تكفيرُه للذُّنوب - الشيخ صالح آل الشيخ فضل التوحيد و تكفيرُه للذُّنوب - الشيخ صالح آل الشيخ فضل التوحيد و تكفيرُه للذُّنوب - الشيخ صالح آل الشيخ
فضل التوحيد و تكفيرُه للذُّنوب - الشيخ صالح آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيّه وخليله، نشهد أنّه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركنا على بيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كُلَّما صلى عليه المصلون وكُلَّما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وعلى آله وصحبه من اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، كما أسأله سبحانه أنْ يمنّ علينا بتحقيق التوحيد، وبالعمل به، وبتكميله، وتخليصه مما يُنقص كمالَه أو يقدَح في أصله، إنّه سبحانه ولي الصالحين.
لا شك أنّ هذه الدورة والدروس والمحاضرات العلمية التي كان موضوعها ”التوحيد“ من أهمّ ما عُمِل من سلاسل المحاضرات؛ وبل هي أهمُّها؛ لما اشتملت عليه مِنْ بيان وتوضيح أصل الأصول الذي هو حق الله جل وعلا على العبيد؛ وهو توحيده سبحانه وتعالى، والإخلاص له وإسلام الوجه والعمل له سبحانه بلا شريك ولا نِدّ ولا ظهير، والله جل جلاله إنما عَمَر السموات وخلقها، وعَمَر الأرض وخلقها، ليوحّد سبحانه، خلق السموات وجعل لها عُمّارا، وخلق الأرض وجعل فيها الجن والإنس مكلَّفين، وذلك كله لتوحيده سبحانه وتعالى، قال جل وعلا ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، وهو سبحانه مستحقٌّ من عباده أنْ يُذكر فلا ينسى، وأن يُوحّد فلا يعبد أحد سواه، وأنْ يُخلص له دين والعبادة امتثالا لقوله ﴿ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:2-3]، وهذا هو حقه سبحانه على عباده، الذي بعث به الرسل، ومن أجله أنزل الكتب، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وقال أيضا﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25]، وهذا التوحيد هو الذي اجتمعت عليه الرسل، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله جل وعلا من أحد غيرَه، قال جل وعلا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، يعني التوحيد الخالص المبرّأ من كل شائبة شرك تقدح في خُلُوصه وإخلاصه، وقال أيضا جل وعلا ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، والإسلام هذا ليس خاصًّا بأمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل كلُّ الأمم التي بُعِثت لها الرسل، كلها مطالبة بهذا الإسلام الواحد؛ وهو الإسلام العام الذي أُمِر به جميع الخلق، قال سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فآدم عليه السلام كان على الإسلام، ونوح عليه السلام كان على الإسلام، وإبراهيم عليه السلام كان على الإسلام، وأبناؤه الأنبياء والرسل كانوا على الإسلام، وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانا على الإسلام وأمرا به ودعا إليه، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان على الإسلام الخالص وكانت شريعته أيضا هي شريعة الإسلام.
وهذا الإسلام الذي اجتمعت عليه الرسل وأُمرت به جميع الأمم هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. هذا هو الاستسلام الذي يَنفع العبد، وهذا هو الاستسلام والإسلام الذي أُمر به جميع الخلق المكلَّفين من الجن والإنس.
وموضوع هذه المحاضرة هو ”فضْلُ التوحيدِ وتكفيرُه للذّنوب“ وهذا التوحيد بُيِّن لكم كثيرٌ من مسائله فيما مرّ عليكم من المحاضرات السابقة؛ في بيان معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي بيان الشرك؛ الذي هو مضادٌّ للتوحيد؛ الشرك الأكبر، أو مضاد لكماله وهو الشرك الأصغر، وبُيّن لكم معنى توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا كلُّه بيان لتوحيد الله جل وعلا، هذا التوحيد كلُّه من أخذ به فإنّ له فضلا عظيما على أهله، التوحيد له الفضل الكبير الأكبر على أهله مِمَّن أخذ به والتزمه وحققه في الدنيا والآخرة، والنفوس مشتاقة دائما أن تسمع وأن تتعرف على فضل الشيء؛ لأنها ربما ظنَّت أنّ هذا الشيء فضله واحد غير متعدد، وإذا تعددت الفضائل تعددت أوجه الاشتياق لهذا الأمر، والعناية به والحرص عليه، وبيان ما للعباد من الفضل والأثر إذا التزموا بهذا التوحيد، لهذا جاء في ”كتاب التوحيد“ الذي هو كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد رحمه الله تعالى، أول باب من أبوابه ”باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب“ هذا أول باب، لماذا؟ لأنّ هذا الباب إذا تبيَّن للعبد فضل التوحيد، وبيان أثر التوحيد، وبيان حسنات التوحيد، وآثار التوحيد على العباد؛ على العبد في نفسه، وعلى العباد، وعلى الناس في الدنيا والآخرة، واشتاقت النفوس وعظمت عندها الرغبة في أنْ يتعرفوا على هذا التوحيد، وأن يطلبوا علمَه، وأن يهربوا مما يضاد ذلك الذي يذهب بهذه الفضائل وهذه الآثار والحسنات.
موضوع المحاضرة كما سمعتم في العنوان ”فضْلُ التوحيد وتكفيره للذنوب“، تكفير الذنوب أحد آثار التوحيد، وأحد فضائل التوحيد، لهذا لا يُقتصر في فضله على أنّه يكفر الذنوب، فالله جل وعلا منّ على عباده؛ لأنْ أوضح لهم هذا التوحيد، وبيّن لهم أنّ أهل هذا التوحيد تكفر لهم الذنوب والسيئات، قال جل وعلا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، ما دون الشرك يغفره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده، وهؤلاء الذين تخلّصوا من الشرك هم أهل التوحيد، والتوحيد عنوانه البارز تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثبت في صحيح مسلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال «الإسلام –يعني التوحيد- يجُبّ ما قبله، والهجرة تجُبّ ما قبلها»([1]) الإسلام لمن حققه، وأسلمه ابتغاء وجه الله جل وعلا لا نفاقا ورياء، وتبرّأ من الشرك وكفر بالطاغوت، وعلِم معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنّ هذا الإسلام يجُبّ ما قبله، فأوّل ما يواجه العبد إذا أسلم، أنّ إسلامه يجُبّ ما سلف له من الآثام، وما سلف له من الذنوب حتى ولو كان أعظم الذنوب وهو الشرك الأكبر بالله جل وعلا، الإسلام هو أعظم وسائل التوبة، الإسلام هو أنجح وأبلغ وسائل مغفرة الذنوب لمن كان عليها، حتى الشرك الأكبر، فكيف بما دونه من الشرك الأصغر، أو عموم الذنوب والكبائر والآثام، لهذا يُدرك التوحيد أهل التوحيد بالفضل أوّل ما يعلنُ الإسلام؛ لأنه بتوحيده لله جل وعلا وبراءته من الشرك فإن هذا التوحيد والإسلام يجُبّ ما قبله مهما كان الذي قبله، ولو كان أشْرَكَ الشركَ الأكبر، أو سفك الدم، أو أخذ المال، أو انتهك العِرض، أو وقع في الموبقات والكبائر، فكل ما قبل الإسلام مغفور بالإسلام، الإسلام يجُبّ ما قبله.
وأمّا أهل الإسلام في تكفير الذنوب فإنّ كلَّ مسلم يتفضّل الله جل وعلا عليه بأنّه تُكَفَّر له الذنوب -إذْ كان مسلما موحِّدا- في الآخرة بمشيئة الله جل وعلا، وفي الدنيا إذا تاب توبة صالحة؛ فمن تاب نفعه توحيده من كل ذنب، وكفّر له الذنوب، ومَنْ عمل بما دون الكبائر في الدنيا فإنّ توحيدَه وعمله الصالح يكفِّر عنه تلك الصغائر.
أما حقيقة هذا التوحيد الذي يحصل به تكفير الذنوب، فإنّه ألاّ يُعبد إلا الله جل وعلا، وأنْ يعلَم العبد معنى الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة. التوحيد الذي من فضائله وآثاره أنّه يكفّر الذنوب هو أنْ تعلَم معنى هذه الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنْ تشهد بها مُعْلِنا غير مستخْفٍ بهذه الشهادة العظيمة، لهذا ثبت في الصحيحين من حديث عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ شَهِد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا عَلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ, وَأَنّ النّارَ حَقّ, أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَل»، وفي رواية قال « حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار» فـمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأول هذه الفضائل بأن حقق التوحيد أو يعني شهد شهادة التوحيد بأقل درجاتها كما سيأتي بيانه، فإن فضل التوحيد عليه أن الله جل وعلا يُدخله الجنة وَعْدًا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وأنّ الله يحرم عليه النار وعدا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وجاء في الصحيحين أيضا من حديث عِتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان فضل الشهادتين «إنّه مَنْ قال لا إله إلا الله أو من شهد أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله حرم الله عليه النار» وفي لفظ أيضا «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» من جنس ما جاء في حديث عُبادة، وهذا كله من الفضل العظيم والأثر الكبير للتوحيد.
وهنا وقفة في هاتين المسألتين:
Áأما الأولى: فما معنى كوْن هذا التوحيد -وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من الشرك وأهله، والكفر بالطاغوت، وترك الشرك كبيره وصغيره- ما معنى أنّه يَدخل الجنة على ما كان من العمل؟
Áوما معنى أن الله حرّم عليه النار؟
هاتان مسألتان.
أما الأولى وهي أنّه يدخل الجنّة على ما كان من العمل، فإن أهل التوحيد مآلهم إلى الجنة؛ والتوحيد أهله فيه أصناف: منهم من حقق التوحيد، منهم من خلط مع التوحيد عملا صالحا وآخر سيئا، ومنهم من جاء بالتوحيد ومعه ذنوب كثيرة جدا.
Dأما الأول: فمن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وتحقيق التوحيد معناه تكميله؛ من أن يكون إخلاصه لربه، وخوفه منه، ورجاؤه فيه، أن يكون في نقص بوجه من الوجوه.
ومعنى تحقيق التوحيد: أن يكون متخلصا وخالصا من الشرك الأكبر والأصغر، ووسائل الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع صغيرها وكبيرها، ومنَ المعاصي والذنوب الكبائر والصغائر، إلا من تاب، والعمل بالصالحات كما أمر الله جل وعلا.
فهذا التوحيد فضله عليه أنّه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب عِدَّتهم سبعون ألفا بنص الحديث أنّه في هذه الأمة سبعون ألفا؛ يعني إذا أتوا يوم القيامة فيهم؛ في هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنّة من الله جل وعلا وكرم أنه مع كل ألف سبعون ألفا، وهذا ميدان يتنافس فيه المتنافسون، وأعظِم به أمنا وأمانا، وأعظِم به أثرا وفضلا في الدنيا والآخرة.
D أما القسم الثاني من الناس: فَهُم الذين عملوا بالتوحيد؛ شهدوا شهادة التوحيد وآمنوا واعتقدوا الاعتقاد الحق في الله جل وعلا في توحيده؛ في إلهيته، وربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، عبدوه وحده لا شريك له، وتخلصوا من الشرك امتثالا لقوله ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، ولكنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فهؤلاء التوحيد فضله عليهم:
1. أنهم إنْ تابوا تاب الله عليهم.
2. وإن لقوا الله جل وعلا بكبائر بغير توبة فإنه يغفر سبحانه وتعالى ذلك لمن يشاء؛ يعني بدون محاسبة لهم يغفر لمن يشاء.
3. ومنهم من يكون عمله السيئ بالموازنة ويرجح التوحيد بأعماله السيئة فضلا من الله جل وعلا وتكرم.
Dوأما الصنف الثالث: فهؤلاء الذين أتوا بالتوحيد، وقوي إخلاصهم، وقوي توحيدهم وقويت حميتهم لتوحيد الله، وبراءتهم من الشرك، وبغضهم للشرك والكفر ولأهل الشرك والكفران، وكفرهم بالطاغوت وهو كراهتهم لعبادة غير الله، وبغضهم للشرك بالله جل وعلا وللكفر بأنواعه، عَظُم ذلك عندهم، ولكن كثرت سيئاتهم وذنوبهم، فهؤلاء مَثَلُهم مَثَل الرجل الذي يؤتى به يوم القيامة كما ثبت بذلك الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة بين الخلائق، وينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر فيها سيئاته وذنوبه، فإذا رأى ذلك خاف وأصابه الهلع، فيقول الله له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا أنكر من هذا شيئا. فتوضع هذه السجلات في كِفّة السيئات، ترجح كِفّة السيئات، ثم يقول الله له: ألك عمل؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله له: بلى. فيؤتى ببطاقة، فيقول: ما هذه يا رب؟ فتوضع في كِفّة الحسنات، فتطيش تلك السجلات» يعني من قوة رجحانها، كفة الميزان رجح بقوة، فارتفعت الكفة الأخرى، فطاشت السجلات وتناثرت من قوة ثقل هذه البطاقة، هذه البطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لكن هل هذا الفضل لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ لو كان الأمر كذلك لما دخل النار أحد من أهل التوحيد، والله جل وعلا قد توعد أهل التوحيد من أهل الكبائر وأهل الذنوب بأنهم يدخلون النار ويُنَقَّون فيها، ثم مصيرهم إلى الجنة، لكن هذه حالة خاصة لمن كان التوحيد في قلبه عظيما، وحُبُّه لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه لله؛ بأنه مؤمن بتوحيد الله بربوبيته وبماهيته وبأسمائه وصفاته، وأنّ هذا التوحيد بأنه لا يعبد إلاّ الله ولا يشرك بالله جل وعلا شيئا، وأنه يحبّ التوحيد، ويحب أهله، ويبغض الشرك ويُبغض أهله، فتكون هذه البطاقة مَيَّزَتْه عن سائر الأمة، فطاشت سجلات السيئات، مقابلة بعظم التوحيد وعظم شأنه، والتوحيد في القلب أيضا إذا عظم، إذا عَظُم التوحيد في القلب فإنه لا يكاد يكون معه إقدام على سيئة أو إصرار على كبيرة من كبائر الذنوب، فتكون حالة خاصة لعبد يُخرج من بين الخلائق أو لمن هو مِثْلُه ممن كثرت سيئاته لكن عظم توحيده وإخلاصه لله جل وعلا.
وهذا يُرَغَّب فيه كلُّ أحد، ويَرْغَب فيه كل أحد منّا ممن لا يأمن على نفسه المعصية والذنب وممن يغشى الذنوب أو تَقِلُّ عنده الحسنات، وكلما زاد علم العبد بربه كلما علم أنه محتاج لما يخلصه من الذنوب والآثام، ومن قلة الامتثال للواجبات، وأعظم ذلك هو الإخلاص وتوحيد الله جل وعلا علما وعملا وانقيادا، لهذا «قال موسى عليه السلام لربه جل وعلا: يا ربّ علمني دعاء أدعوك به أو أذكرك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. فقال موسى عليه السلام: يا رب كل عبادك يقول هذا -أو يقولون هذا، يعني أراد شيئا يختص به؛ لأنّه ظنّ أنه كما أنه من أولي العزم من الرسل، وأنه كليم الله، وأن الله أعطاه التوراة، فإنّ هناك شيئا خاصا يدعو الله ويذكر الله به – فقال جل وعلا له: يا موسى لو أنّ السموات السبع وعامرهن غيري، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، ما لت بهن لا إله إلا الله» وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة، الفائدة الأولى: فيه بيان فضل كلمة التوحيد، وأنّ الله جل وعلا من منته وكرمه وتفضله جعل الكلمة العظيمة ذات الفضل العظيم التي ترجح بالسموات ومن يعمرها وترجح بالأرض ومن فيها، جعلها كلمة سهلة متاحة للجميع لمن علمها وشهد بها شهادة الحق، وهذا من رحمة الله جل وعلا المتصلة بربوبيته والمتصلة بألوهيته والمتصلة بأسمائه وصفاته، كيف ذاك؟ رحمة الله جل وعلا بعباده في آثار كونه، سبحانَ ربًّا لهم أنْ جعل الرِّزق الذي به قوام حياتهم ليس مختصا بفئة منهم، الرِّزق الذي به قوام الحياة شائع؛ يناله الغني ويناله الفقير، الماء والحب، البُرّ والتمر ونحو ذلك بحسب البلد، يكون شائعا؛ ليس نادرا في بلد أو في أرض حتى لا يُدرك هذا الشيء إلا الأغنياء أو إلا الشرفاء أو إلا قلة الناس، ربوبية الله جل وعلا على خلقه العامّة جعلت ما يحتاجونه بما به قوام حياتهم جعلته شائعا بينهم؛ يمكن تحصيله، وكذلك في توحيد إلهيَّته جعل من رحمته أنّ ما به يُحقّق العباد، توحيد الإلهية يشترك فيه الجميع بأبسط شيء وهو كلمة لا إله إلا الله، ونبّه الله موسى عليه السلام على ذلك ليبيّن له أنّ ما يحتاجه العباد من فضل التوحيد لا يختص به الأنبياء، ولا يختص به الرسل، ولا يختصّ به أولي العزم، ولا يختصّ به كليم الله جل جلاله، وإنما هذا شائع، (قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا) فدل هذا أن رحمة الله بعباده أدركتهم في ربوبيته لهم وفي ألوهيته لهم وفي أسمائه وصفاته لهم؛ في أنّ ما به حياتهم؛ قيام حياتهم البدنية، وما به قيام دينهم، وقيام نجاتهم في الدنيا والآخرة، أنّ هذا شيء مشاع دائما.
حديث موسى عليه السلام رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه النسائي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري في إسناد حسن، وصحح الإسناد الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وله روايات أخر يصير مجموعها حسنا أو صحيحا.
إذا تبين هذا تبين لك عظم هذا الشأن، وهو شأن التوحيد، وسهولته وفضله، وأنّ العلم به أعظم المهمات، أعظم المهمات، ولهذا يُعلم الصغير التوحيد؛ لأنّ هذا أعظم الإحسان لهذا الصغير، وترك الصّغير أو حتى ترك الكبير من تعلّم وتعليم التوحيد هذا نقص وسعي فيما هو دونه، لهذا تنتبه لأصل من الأصول، وهو أن في حديث موسى عليه السلام أنّ التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأن هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.
إذن تحصّل لنا مما ذُكر أنّ من فضل التوحيد ومن أثره:
— أنّه يكفّر الله به الذنوب.
— وأن به ترجح كِفة الحسنات على كفة السيئات.
— أما الأمر الثالث فإنه يمنع الخلود في النار وهو الذي ذكرته لك في الأحاديث السابقة (حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار).
والتحريم في النصوص؛ تحريم الجنة أو تحريم النار على نوعين؛ في النصوص:
u تحريم أبدي.
v وتحريم أمدي.
(حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار) من شهد شهادة التوحيد حرم الله عليه النار، يعني أنْ يكون خالدا مخلّدا فيها، قد يدخلها، وقد لا يدخلها، بحسب ذنوبه، وحسب ما عنده، لكنه متعرض للوعيد، لكن هل يَخْلُد فيها صاحب التوحيد؟ لا، بوعد الله جل وعلا لا.
حرم الله الجنة على الكفار هذا تحريم أيضا أبدي، الكافر لا يمكن أنْ يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.
المؤمن هل تَحْرُم عليه الجنة؟ جاء في بعض النصوص أنّ بعض المسلمين بسبب الذنوب أنه حرم الله عليه الجنة، مثل «حرّم الله الْجَنّةَ على قَاطِعِ الرَحِمِ» «لا يجد ريح الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » هذا التحريم ليس تحريما أبديا على أهل التوحيد، ولكنّه تحريم مؤقت؛ لأنّهم يُنَقَّون من ذنوبهم قبل ذلك، ثمّ بعد ذلك يتأخر دخولهم للجنة حتى يصيبهم ما شاء الله جل وعلا من العذاب بعدله وحكمته.
فإذن من فضل التوحيد أن أهله تَحْرُم عليهم النار أن يخلّدوا فيها.
— الرابع أنّ من فضل التوحيد على أهله أنّ التوحيد أعظم الأسباب لنيل شفاعة محمد بن عبد الله النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، سأل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «لقد علمت أنّه لا يسألني أحد قبلك يا أبا هريرة عنْ هذا، لما علمت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا منْ قلبه ونفسه»، ومعنى (أسعد الناس بشفاعتي) يعني سعيد الناس بشفاعتي؛ السعيد من الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خاصا من قلبه ونفسه، مَن قال لا إله إلا الله مخلصا فيها من قلبه ونفسه، شاهدا شهادة الحق، عالما بمعناها، فإنه أحق الناس بشفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال بوسائل كثيرة عد العلماء منها –أمور كثيرة تزيد على العشرة- ما جاء في الأحاديث الصحيحة ولكن أسعد الناس بها الموحد الذي أخلص في توحيده، وهو أول الناس نيلا لهذه الشفاعة.
— أما الخامس فهو أنّ التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج الكُرُبات في الدنيا وفي الآخرة:
قال جل وعلا ﴿الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ﴾[الأنبياء:101-103]الآية، هؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من هم؟ هم أهل التوحيد؛ أهل الإيمان بالله الحق، بتوحيد الله جل وعلا، والإيمان فيه بأنه هو المستحق للربوبية وحده، وهو المستحق لإلهية، وهو المستحق لأسماء والصفات، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعمل صالحا، هؤلاء هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، حالتهم بالآخرة لا يحزنهم الفزع الأكبر.
وأما في الدنيا ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[النحل:97] فلهم الحياة الطيبة وتفريج الكربات في الدنيا وفي الآخرة.
قد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما «يَا غُلاَمُ, إِنّي أُعَلّمُكَ كِلمَاتٍ: احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ» (اِحْفَظِ الله يَحْفَظْكَ)، ثم قال له «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله» هذا توحيد «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله» توحيد، ثم قال له «وَاعْلَمْ أَنّ الأُمّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ, ولو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرّوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ, رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفّتِ الصّحُف» وفي رواية «واعلم أن الفرج مع الصبر وأن النصر مع الكرب»([2]) وهذا كله لأهل التوحيد الذين أخلصوه.