الإيمان وأثره في الأمن والسلوك الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
الإيمان وأثره في الأمن والسلوك الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
الإيمان وأثره في الأمن والسلوك الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
الإيمان وأثره في الأمن والسلوك الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
عناصر الإيمان وأثره في الأمن والسلوك
1 - العلاقة بين الأمن والإيمان
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الموضوع الذي نريد أن نتحدث نحن وإياكم عنه، ليس عليكم بجديد، خصوصاً وأنتم تعيشون معمعة الجهاد من أجل تحقيقه إذا خلصت النية وصلح العمل -بإذن الله تبارك وتعالى- فإن ذلك كالجهاد، بل هو نوع من أنواع الجهاد.
والعلاقة بين الأمن والإيمان، وبين الإيمان والسلوك والعمل؛ قد جاءت واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي أمل وأي هدف تسعى إليه الشعوب والدول والأمم في هذا الزمان وفي كل زمان أعظم من الأمن، إن العالم اليوم -كما تشاهدون- يعيش في بحبوحة من التقدم المادي والرفاهية الحضارية.
وإن الأمم الكبرى فيه والتي تسمى بالتحررية أو التقدمية تعيش في قمة التطور المذهل في مجالات الحياة المادية ولكنها مع ذلك تعيش في حضيض وفي نكد فقدان الأمن والأمان وتعيش في حالة من الرعب، والخوف، والقلق، والضياع الذي يسيطر عليها في جميع مناحيها.
وما أشبهها في ذلك بحال الأمم قبل بعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وما تزال رسالته التي تحقق الرحمة للعالمين بين أيدينا غضة طرية، وما نزال نحن حملة هذه الرسالة التي يجب أن نؤديها إلى العالم كله وإلى أنفسنا أولاً.
أدلة الأمن والإيمان من كتاب الله
العلاقة بين الأمن والإيمان، من جميع جوانبها جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، وأوضحها في حال الأمم السابقة وفي حالنا نحن لنتعظ ولنعتبر، فالله تبارك وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، ويقول جل شأنه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وآيات كثيرة تبين أنه لا أمن ولا رخاء ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وأن كل من يبحث عن الأمن في نفسه، أو مجتمعه، أو أمته فإنه لن يجده إلا في الإيمان بالله.
فعليه أولاً أن يؤمن بالله، وأن يخضع أعماله وجوارحه وهواه لله تبارك وتعالى، يكون تابعاً لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والنور والحق والسُنة.
ولهذا يقول جل شأنه في حال الطرف الآخر: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ويقول تبارك وتعالى في حال الطرف الآخر الذي لم يحقق الإيمان: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].
والعلاقة بين الأمن وبين الإيمان تتضح من نفس مبنى الكلمة في اللغة العربية، فإن الإيمان تتركب حروفه الأصلية من نفس الكلمة التي تتركب منها حروف الأمن، وهي الهمزة والميم والنون (أَمِنَ)، هذه المادة -مادة (أمن)- يشتق منها الإيمان، وتدل عليه كما تدل على الأمن، وتدل على مادة أخرى وهي (الأمانة) فنجد أن الأمانة والأمن والإيمان متقاربة في الاشتقاق في اللفظ، فهي متقاربة في المعنى وفي الدلالة، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأييداً لذلك: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والأمانة يقول الله تبارك وتعالى فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، فما هذه الأمانة؟
هي نفس عبء وحمولة الإيمان بالله وعبادة الله تبارك وتعالى التي قال فيها في موضع آخر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالأمانة هي مدلول الإيمان، وهي تشمل جميع الإيمان.
الإيمان أعظم أمانة حملها الإنسان
وأعظم أمانة أعطيها الإنسان أو كلف بها هي الإيمان بالله، وعبادة الله وتوحيده تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت يجب على الإنسان أن يكون أميناً، وأن يأمنه المسلمون ويأمنه الناس وأن يكون مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
فهذه كلها خصال مشتركة مجتمعة يجمعها جميعاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المتفق عليه: {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون - شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فشهادة أن لا إله إلا الله هي الشعبة العليا، وهي التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، والحياء صفة تجمع صفات الخير جميعاً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أيضاً: {إن الحياء لا يأتي إلا بخيرأو إن الحياء خير كله } فالحياء كله خير، وهو جماع خصال الخير جميعاً، فإذا استحيا الإنسان من الله ومن خلق الله ومن المؤمنين، فإنه لن يرتكب عملاً محظوراً قط.
ونتيجة لذلك سيكون الأمن في قلبه، وذلك نتيجة لخوفه من الله تبارك وتعالى، وسيكون الأمن في المجتمع لأن كل إنسان يستحي أن يعصي الله تبارك وتعالى، وأن يراه الله تبارك وتعالى على معصية وهو خال وحده، فكيف يفعلها جهاراً أمام الناس، فلا يعصي الله جهرةً إلا من سلخ ربقة الحياء وثوب الحياء منه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
أعظم الأمن إنما يتحقق بتوحيد الله
خصال الإيمان وشعبه تتفق وتلتقي حول هذه النقطة وحول هذا المبدأ، وأعظم الأمن إنما يتحقق بتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، ولهذا قال جل شأنه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] والأمن بالألف واللام (أل) هكذا للاستغراق، أي: أن كل الأمن إنما يكون لمن لم يلبس إيمانه بظلم, والظلم هنا هو الشرك كما فسره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شق على أصحابه هذا عند نزول الآية السابقة، فقالوا: {وأينا لم يظلم نفسه }، فصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنه أفضل الناس بعد الأنبياء خافوا ألا يكون لهم هذا الأمن، لماذا؟ قالوا: {وأينا لم يظلم نفسه } وأينا لم يعص الله، ولم يرتكب خطيئةً أو ذنباً، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طمأنهم فقال: {ليس ذلك، وإنما هو كما قال العبد الصالح :يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] } فمن ترك الشرك، ولم يلبس ولم يخلط توحيده بشرك فله الأمن: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فله الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وله الهداية في الدنيا وفي الآخرة.
أما في الدنيا فهو يعيش على الصراط المستقيم فهو من أهل الهداية، وأيضاً من أهل الأمن؛ لأن من لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى فإنه آمن من كل شيء.
الصحابة ضربوا أروع الأمثلة في تحقيق الأمن
ضرب أصحاب النبي من ذلك أعظم المثل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فليس هناك أي خوف: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فالمؤمن بالله تبارك وتعالى لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى، ومن حقق التوحيد لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى.
ولهذا لا يخاف من الكفر وأممه وأسلحته وقوته وعدده وعدته أبداً, ولا يخاف من ذي هيبة أو شأن أن يقول له: اتق الله! أبداً، ولا يخاف من صاحب معصية أو فجور إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكما أمره الله بالحكمة وبالموعظة الحسنة.
فهذا في الدنيا وفي الآخرة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه [الأعراف:43] فلا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته ابتداءً إلا من حقق التوحيد كاملاً غير منقوص، ومن كانت عليه من المعاصي ومن الكبائر ما يستحق بها دخول النار ولم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى بداية، فإن مصيره إلى الجنة -بإذن الله- لِمَا حقق من التوحيد؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تأذن لمن لقيه لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، وإن زنا وإن سرق.
فإذا حقق الإنسان التوحيد فلا بد أن يدخل الجنة ولو بعد حين، ولا يعني ذلك أن من ارتكب هذه المنكرات لا يدخل النار -عافانا الله تبارك وتعالى وإياكم من النار- لكن يعني: أن مصيره -بإذن الله- إلى الأمن وإلى الجنة، وإن عذب ما عذب قبل ذلك، وإن خوف بما خوف، فتبين أن أعظم أمن يتحقق للإنسان هو تحقيق التوحيد، أي: طمأنينة الإيمان التي تكون بتوحيد الله.
وانظروا إلى حال الذين لا يحققون توحيد الله تبارك وتعالى، كيف يعيشون في خوف، ولا يشعر بذلك الخوف -ولله الحمد- الذين تربوا على التوحيد وفهموه، وانظروا إلى حال الذين يتعلقون بالشياطين، والذين يعبدون الأولياء، والذين يعبدون السحرة والكهان والعرافين، والذين يتعلقون بالدجالين وأمثالهم يعيشون في خوف دائم وفي رعب وفي قلق نتيجة عدم تحقيقهم للتوحيد، فالإنسان منهم يخاف إذا عمل أي عمل، فهو يتكلم هو وصديقه في البيت وليس معهما أحد، ويقول له صاحبه: يا أخي اتق الله، ولا تذهب إلى الدجال ولا إلى الساحر ولا إلى الكاهن فهو إنما يضحك عليك، ويسلب مالك، وينهب عقيدتك، فيقول: اسكت، لا يسمعك الولي، وكأنه حاضر! فجعله رباً من دون الله تبارك وتعالى، وخاف منه وكأنه حاضر معه في ذلك المجلس، وقد يكون بينهما مئات الأميال.
وهذا الخوف وهذا الرعب الذي يلقى في القلوب إنما هو نتيجة عدم تحقيق توحيد الله تبارك وتعالى.
وأما من وحد الله تبارك وتعالى، ومن علم أن الله تبارك وتعالى هو وحده المعبود لا سواه، وهو وحده المدعو لا سواه، وهو وحده الذي يملك الضر والنفع، ولا أحد من العالمين يملك ذلك، فإنه لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى في سره وفي علانيته.
فهذا هو أعظم ما يتحقق من أنواع الأمن بالإيمان بالله وبتوحيد الله تبارك وتعالى.
2 - الأمن إذا تجرد من التوحيد والإيمان
وأما ما يطلق الآن في هذا العصر وفي غيره، من الأمن الذي يقصد به خلاف الخوف، والذي يراد به أن يعيش الأفراد وتعيش المجتمعات في طمأنينة وفي رخاء وفي راحة لا تعكرها جريمة المجرمين، ولا عبث المعتدين، الأمن بهذا المفهوم متحقق ويتحقق أعظم التحقق بالإيمان بالله تعالى، وبصدق التوحيد لله، والإخلاص في امتثال أوامر الله تبارك وتعالى، ولا يتحقق بسوى ذلك، وإن شئتم الأدلة من الواقع، فما أعظمها من أدلة:
حالة العرب الأمنية قبل البعثة
ذكان العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال من الرعب والخوف والجريمة تقشعر منه الأبدان، فما بالكم بالرجل العاقل الحليم البالغ الشجاع من سادات القوم يقبض على ابنته التي ناهزت الحلم ويدسها في التراب، وهي حية تصرخ، أي أمن يمكن أن يتحقق في مجتمع يفعل عظماؤه وقادته هذا، وأي قسوة في القلوب تتخيل بعد هذه القسوة، فلا رحمة ولا شفقة، كما أن الغزو والنهب والسلب هو حياتهم، ولهذا يقول شاعرهم:
وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
فنحارب نحن وبكر من عدانا من العرب؛ لننهب ونجمع، فإذا لم نجد من نحارب إلا بكراً حاربنا بكراً وغنمنا بكراً، فهذه هي الجاهلية وهذه حياتهم، فما كانوا يجدون للأمن طعماً.
كان الرجل يمشي بالضعينة -أي: المرأة التي تكون في حوزته- وإذا برجل يخرج له من الطريق ويقول له سلم الضعينة وإلا قتلتك، وهنا لا حكم إلا للسيف، فإن قتله أخذ ضعينته، وإن قتل ذلك المجرم فإن مجرماً آخر يترصد في الطريق في مكمن آخر، لا طمأنينة ولا سعادة ولا راحة.
حال المسلمين الأمنية بعد البعثة
ولما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان المشركون يعذبون أصحابه رضي الله عنهم أشد العذاب، ونالهم أشد الأذى، بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الظرف وفي ذلك الوقت الحالك وبشرهم بأن دينه هو دين الأمن ودين الرخاء والسلام للإنسانية جميعاً، فإنه لما جاءه أصحابه وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوسداً بردته في الكعبة، قالوا: يا رسول الله! إن البلاء قد اشتد بنا فادع الله لنا، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر الوجه، متأثراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استعجالهم وعدم صبرهم، ولا غرابة في ذلك فهذا شأن النفوس البشرية، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ما يلاقون من الأذى هو حال الأمم قبلهم، وقال: {قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه ويشق شقين، لا يرده ذلك عن دينه } إلى أن قال: {والذي نفسي بيده لتسيرن الضعينة ما بين عدن وصنعاء -أو أبين وصنعاء - لا تخاف إلا الله } فبشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمن سوف يستتب بفضل الإيمان بالله تبارك وتعالى، حتى إن الضعينة سوف تقطع هذه المسافة في جزيرة العرب لا تخاف إلا الله تبارك وتعالى، وفعلاً لم يمض وقتاً طويلاً حتى كان الراعي وغيره يقطع المفاوز وهو لا يخاف إلا الله تبارك وتعالى والذئب على غنمه، أما البشر فلا يخاف منهم أبداً.
وقد تحقق هذا الأمن على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما آمن الناس ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، والعجيب أن هذا الأمن الذي تحقق على يد محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الهداية والخير للبشرية، تحقق بأقل ما يمكن أن يتحقق من الدماء، فقد أحصى المؤلفون في السيرة عدد القتلى الذين قتلوا في جميع الحروب التي خاضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزيدوا على ألف قتيل فقط، ومن هؤلاء الألف بنو قريظة، مع أن بني قريظة لا ينطبق عليهم في الحقيقة أنهم قوم حاربوا، فليسوا قوماً أو أمةً أو عدواً خارجياً محارباً، وإنما هم بتعبيرنا الحديث: (مواطنون ارتكبوا الخيانة العظمى) لأنهم كانوا تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموالاة العدو الخارجي -الأحزاب- الذي جاء لحصار المدينة ، ومع ذلك قتل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضع مائة، فهؤلاء يدخلون ضمن هذا العدد المقارب للألف من القتلى، فقد حقق الله تبارك وتعالى الأمن وعممه في جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق ، وكل ما دخل في حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حكم المسلمين.
ولو أننا قارنا - ولا مجال للمقارنة، ولكن لأن خفافيش الأبصار والمقلدين لا يجدون ولا يريدون أن يجدوا قدوة إلا أعداء الله تبارك وتعالى في الغرب والشرق- بين هذا العدد وبين ضحايا الحرب العالمية الثانية، كم قُتل في الحرب العالمية الثانية، وكم جرح، يقال في الإحصائيات الدولية: إن ضحايا هذه الحرب ستين مليوناً من القتلى والجرحى، وماذا حققت من خير، أو أمن، أو رخاء؟!!!
فانظروا إلى ثمرة الإيمان كيف تثمر الأمن العظيم بأقل عدد، وانظروا إلى الكفر بالله عز وجل، وإلى أفعال الجبابرة والطواغيت الذين يريدون العلو والفساد في الأرض، كيف يدمرون الأمم والشعوب، وهذه الملايين من البشر تذهب ضحايا نزوات شخصية لطواغيت من البشر متألهين فأين هذا من ذاك.
العرب في الجاهلية اقتتلوا في حرب داحس والغبراء أربعين سنة، حتى تفانت عبس وذبيان، سبحان الله! وما هي داحس والغبراء؟! فرسان للسباق، اتهم كل فريق الطرف الآخر بأن هذه سبقت تلك؛ فتحاربت القبيلتان اللتان كانت منهما هذان الفرسان أربعين سنة.
وما عهد ذلك منكم ببعيد، أيضاً في الجاهلية الحديثة فإن دولتين من دول أمريكا الوسطى ، أظنها الدومينيكان والسلفادور ، اقتتلتا أيضاً ودامت الحرب بينهما، من أجل مباراة لكرة القدم.
الإنسان إذا فقد الإيمان وأخذ يرفع ويضخم التوافه ويعظمها في قلبه إلى حد أنه يقاتل من أجلها ويقتتل، فهو ذلك الإنسان الجاهلي، سواء كان قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم بعد بعثته.
فإذا فقد الإيمان فقد الأمن ولو لأتفه الأسباب، ولو لأحط الغايات وأدنى ما يستمتع به من الشهوات، فكيف تحقق الأمن في المجتمع المسلم؟ وكيف كان سلوك المؤمنين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحقق بهم ذلك الأمن؟
مثال يوضح علاقة الأمن بالإيمان
الأمثلة كثيرة، ونضرب مثالاً واحداً لعلاقة الأمن بالإيمان:
أم الخبائث هي: الخمر, وهي التي وراء كل جريمة، أو هي التي إذا شُربت فلتتوقع كل جريمة بعد ذلك، وليكن بعد ذلك ما يكون، وما المخدرات إلا فرع وتابع لها، والأمة التي تحارب الخمر بشدة لن تنتشر فيها المخدرات، بل الأمة التي تحارب التدخين بقوة وحزم لن ينتشر فيها الخمر، وبعد ذلك وأبعد منه المخدرات.
هذه الخمر لدينا فيها مثالان حقيقيان وواقعيان، ويغنيان عن كثير من الأدلة النظرية، لو تأملنا فيهما لعلمنا قوة العلاقة بين الأمن وبين الإيمان:
كان الناس يشربون الخمر في الجاهلية ثم نزل الإسلام بتحريمها بالتدريج، وكان الحكماء والعقلاء حتى في الجاهلية لا يشربون الخمر، ولا يشربها عاقل لا في جاهلية ولا في غيرها، والحكماء من العرب تعففوا عنها حتى في الجاهلية، وكان عدد من كبار الصحابة رضي الله عنه متعففاً عنها حتى قبل أن تحرم التحريم الكلي، وقد تدرج تحريمها، والشاهد أنه لما نزل التحريم الصريح في الآيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] فلما نزلت فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وتلاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وتنادوا بها، وذهب وافدهم إلى من يشربها في منتدياتهم ومجامعهم: [[ألا إن الخمر قد حرمت -وإذا بأزقة المدينة تجري أنهاراً، فأريقت الخمر- وقال الصحابة انتهينا ربنا ]] ولم يكن جوابهم إلا ذلك: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:51] في كل زمان ومكان: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] وإذا قيل: لهم انتهوا، فإنهم يقولوا: انتهينا، فانتهوا وأريقت، ولم يحتفظوا بها ويقول قائلهم: لن نشربها ولكن يمكن أن نبيعها على أحد من اليهود أو أهل الذمة، فما فكروا في هذا ولم يقولوا، أو يقل قائل منهم: لماذا لا نشربها في الخفاء ونبقيها، ولم يُشَكِّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجنة للمراقبة تدخل البيوت وتحث على مراقبة الله تبارك وتعالى وعلى الخوف من الله تبارك وتعالى، فهؤلاء هم تربية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تربوا على مرتبة الإحسان: {أن تعبد الله تبارك وتعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك } فعلموا أن الله تبارك وتعالى عليهم رقيباً، وأنه مطلع على أحوالهم، وأن مقتضى إيمانهم، بل من إيمانهم أن ينتهوا حيث نهاهم الله ورسوله، فانتهوا وانتهت الخمر، وما بقي إلا الشواذّ الذين لا تخلوا منهم أمة، ومع ذلك ممن أقيم عليه الحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحبة الله ورسوله فهو قد أخطأ وغلط نتيجة الضعف البشري الذي ينتاب كل إنسان، لكن لم يعد هناك منهج استحلال وإصرار وعناد لأمر الله ورسوله، والسبب أنهم لما كانوا مؤمنين حققوا ذلك.
ولنأخذ المثل الآخر من الأمة التي لا تؤمن بالله ورسوله:
فـأمريكا خرجت من الحرب العالمية الأولى وهي تريد أن تربي شبابها تربية جديدة، لأنها انفتحت على العالم، وتريد أن تخطط لتسيطر على العالم كله ما أمكن، وكانت تريد لشبابها القوة، بالنظرة المادية المجردة، لا إيماناً بالله وبرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بالآخرة وبالبعث من بعد الموت، ولكن ليكون الشباب قوياً ناهضاً ولتكون الأمة ناشطة ناهضة، فقالوا: لا بد أن نحرم الخمر، لأن الخمر دمر المجتمع الأمريكي.
وكتب الأطباء التقارير عن أخطارها، وشكى العقلاء الصفحات الطويلة عن مصائبها، والآباء والأمهات والمدرسون وكل المجتمع يشتكي من المجرمين، كل ذلك لماذا؟ قالوا: هذا نتيجة الخمر، قالوا: وما المانع، ولماذا لا نحرم الخمر؟! ودُرِسَ الأمر دراسة جادة، وحسبت التكاليف التي يمكن أن تنفق للدعاية لتحريم الخمر، وعينت وشكلت اللجان والهيئات في مداخل البلاد، وعينت لجان التفتيش على مصانع الخمور، وضُبط الأمر ورتب وأعلن رسمياً باسم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية : أن الخمر قد حرمت في الولايات المتحدة جميعاً، وأن الحرب عليها قد أعلنت رسمياً وشعبياً، وعملت الدعاية دورها، وكلكم يعلم قوة الدعاية الأمريكية إذا أرادت أن تدعو إلى أي شيءٍ شراً كان أم خيراً.
ومرت السنة الأولى والثانية وتفاقم الأمر خطراً، فضوعفت البنود للنفقات، وبعثت هيئات التفتيش ورجال التفتيش، وبذلوا الجهود أكثر وأكثر، وبذلوا التحريات أكبر وأكبر، ثم جاءت التقارير بأن الأمر قد تفاقم، وأن شربها قد ازداد، وأن المصانع قد أصبحت في الخفاء أكثر مما كانت في العلانية، وأن الناس يحتالون على إدخالها من المنافذ بجميع أنواع الحيل، وأن الأمر قد تجاوز الحد، وأن كل المليارات التي أنفقت في الدعاية لم تجد أي شيءٍ، واجتمعوا وأعادوا الاجتماع مرة إثر مرة، وفي النهاية لم يجدوا بُداً من أن يعلنوا رسمياً وشعبياً أن الحرب على الخمر قد انتهت وأنها حلال كالماء، لماذا؟ هل تنقصهم حضارة؟! هل تنقصهم ثقافة؟! هل تنقصهم معلومات طبية عن أضرار الخمر؟! هل تنقصهم إحصائيات عن الجريمة وعن أثر الخمر في إفساد المجتمع؟! لا، لا يوجد دولة في العالم تملك في هذا الشأن مثل هذه الدولة، فما الذي ينقصهم؟ ولماذا لم ينجحوا إذاً؟ ولماذا نجح المجتمع الإسلامي في محاربة هذا الداء الخبيث بأقل ما يمكن من الجهود، فبنداء واحد: ألا إن الخمر قد حرمت، انتهى كل شيء، ولم تنجح أرقى المجتمعات كما يسميها المخدوعون والمغرورون، ولم تنجح بلد التكنولوجيا في ذلك!!
لأن الأمر يتعلق بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمتى كان الإيمان كان الأمن وتحققت النتائج العظمى، ومتى فُقِد الإيمان فإنه لا خير في الإنسان ولا في المجتمع ولا في الأمة.
فالإيمان هو الذي يحول قاطع الطريق واللص المحترف إلى ذلك الإنسان الرقيق، الودود الحليم، الذي يبكي من خوف الله تبارك وتعالى، والذي لو قلت له: اتق الله! لخشع وبكى أمامك، ولو أخبرك أحد أن هذا كان لصاً مجرماً، وكان قاطع طريق محترف، لما صدقت إلا في ظل الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
نتائج ضعف الإيمان على الأمن
الإخوة الذين يبعثون للدراسة في أمريكا ، يعرفون أن السجون الأمريكية أصبحت ترحب وتفتح الأبواب لمن يدعو إلى الإسلام، بل إلى أي دين وأي ملة: إلى الهندوسية أو المجوسية أو البوذية المهم: ادخلوا السجون وعلموا هؤلاء الناس أي دين من الأديان حتى لا يحترفوا الإجرام، سبحان الله! إنه الخلو من الإيمان، لا تنقصهم الأجهزة الدقيقة، كل حياتهم بالكمبيوتر، فهو ينظم جميع أمورهم، ووسائل اكتشاف الجريمة قد تفوقوا فيها إلى حد لا يكاد يخطر ببال، وكثير منه سري لا يعلنونه حتى لا يعرف ذلك المجرمون، لكن في المقابل تكنولوجيا الإجرام تتفوق، والمجرمون محترفون، ومنهم مَنْ هم أعضاء في المحاكم، ومنهم مَنْ هم أعضاء في الحلقات أو في الهيئات العلمية التي تبحث الخطط لمحاربة الجريمة، ويوجد ضمن الأعضاء من هو مجرم محترف لكنه أستاذ جامعة، أو رجل من رجال الأمن أو من رجال الاجتماع الكبار.
فلماذا تتفوق تكنولوجيا الجريمة على تكنولوجيا مقاومة الجريمة؟ لأنه إذا فقد الإيمان بالله سبحانه وتعالى فلا تستغربوا أبداً أن يكون هذا ولهذا انظروا إلى مجتمعنا ونحن لا نزكي أنفسنا ولا ينبغي لنا ذلك ونحن نعلم الفرق والبعد الشاسع بين مجتمعنا هذا، وبين ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا نحن نرجو ويجب علينا جميعاً رجال الأمن وخلافهم، أن نتعاون ليعود مجتمعنا هذا إلى ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدر الإمكان، -وإلى واقعنا ولله الحمد، كل ما نعيش فيه من أمن ورخاء ومن نسبة متدنية للجريمة فإنها نتيجة لوجود بقايا الإيمان في مجتمعنا، وروابط الإيمان التي تشد بعضه إلى بعض، ونتيجة تطبيق حدود الله تبارك وتعالى على هؤلاء المجرمين، وبقدر ما يتعكر الأمن فعلينا أن نراجع أنفسنا ولا نتهم إلا أنفسنا، ولنعلم أن ما أصابنا فبما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، وأنه بقدر بعدنا عن تحقيق الإيمان، بقدر ما يكون الخلل في الأمن.
فنحن لن نبلغ الجنة ولا نبلغ رضا الله تبارك وتعالى إلا بالإيمان بالله حق الإيمان، وبتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت لن يتحقق لنا الأمن والرخاء والاستقرار في مجتمعاتنا وفي حياتنا الدنيا إلا بتحقيق الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
3 - المنهج الرباني للأمن في الدنيا والآخرة
إن الله تبارك وتعالى لما أنزل أبانا -الإنسان الأول آدم عليه السلام- إلى الأرض، جعل له منهج الهدى، وقال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] ومعنى لا يضل ولا يشقى. أي: الهداية والسعادة، فتكفل الله تبارك وتعالى لمن اتبع الكتاب والسنة وطريق الرشد الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهداية والسعادة، منذ أن نزل الإنسان الأول وإلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها، ولا يمكن أن تتحقق الهداية والسعادة والرخاء إلا في ظل الإيمان بالله، والحياء منه، وامتثال أوامره وطاعته تبارك وتعالى.
من صور فقدان الأمن في الآخرة
قال الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] نعوذ بالله من ذلك، فالصراط أحدُّ من السيف وأدَّق من الشعرة، فكيف إذا بعث الإنسان أعمى، هل يمشي على هذا الصراط أم يقع في النار -نعوذ بالله-؟ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:125] يقول: إنك يا ربنا تعيد الخلق كما بدأته أول مرة، فكيف هذا العمى بعد البصر في الدنيا؟ قال: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:125-126] - نعوذ بالله - ولهذا نخاف والله من أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً لرب العالمين: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
فهجر القرآن هو الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، وعن تحكيم كتابه، عن التعاون لإقامة دينه، وخصوصاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نخشى والله أن يكون هذا الهجر واقعاً فتكون النتيجة هي أن نفقد السعادة والهداية.
وانظروا إلى الذين يتعاونون لإسقاط حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو الشفاعة في حد من حدود الله تبارك وتعالى، إن ذلك يسبب الهلاك، ولذلك لما سرقت امرأة مخزومية من قريش، وهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنها، وعلموا أنه سيقطع يدها، فكلموا أسامة بن زيد لعله يشفع لها عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنزلته عنده، فأتاه فكلمه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأن الأمة قد انقض عليها صاعقة من السماء، وقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد }.
فإذا كان المجتمع يتواطأ ويتعاون على أن لا يقام حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو على أن يشفع في حد من حدوده، فإن النتيجة الحتمية لهذا المجتمع هي أن يزداد الخوف، وتزداد الجريمة، أما إذا كان التعاون على البر والتقوى، وكان موظف أو رجل الهيئة مع رجل الأمن، ومع الرجل العادي، كلهم يتعاونون على ألا تشرب الخمر -مثلاً- وعلى ألا يكون الزنا، وتكون السرقة، وإذا كان حد من حدود الله تبارك وتعالى لم يشفعوا فيه، ولم يبدلوا ولم يغيروا في البيانات ولا في الأوراق، ولا في أي شيء من شأنه أن يعطل هذا الحد أو ينفيه، فإن النتيجة حينئذٍ أن يكون الأمن والرخاء بإذن الله تبارك وتعالى.
من صور فقدان الأمن في الدنيا
ذكر الله في سورة النحل قوله تبارك وتعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] هذه الآية تدل على ذلك، وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى عن قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، بماذا يحلم أي مجتمع في هذه الدنيا بأعظم من ذلك، الأمن والطمأنينة والرزق الرغد، والعيش الهنيئ الرخي الذي يأتي من كل مكان، تجلب فاكهة الشتاء في الصيف وتجلب فاكهة الصيف في الشتاء، انظروا إلى حالنا ولله الحمد، لا يوجد لون من ألوان النعيم المادي والترف إلا ونحن نعيش في بحبوحته، فكل أنواع الفواكه، وكل أنواع المشروبات، والملبوسات، والمطعومات، والروائح، وكل أنواع الأبنية، وما يتعلق بها، وكل أنواع التجهيزات موجودة في المجتمع أو في البيوت.
ولكن حين تبارز الله تبارك وتعالى بالمعاصي، وتعارض أوامر الله تبارك وتعالى وتعترض على ما أنزل الله جهرة وعلانية -كما تفعل كثير من المجتمعات- فإن ذلك لا يستغرب أن تصاب بما ذكره الله تبارك وتعالى حين قال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] فهؤلاء القوم أغرقهم الله تبارك وتعالى بأن فتح عليهم أبواب كل شيء ولم يقل كما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وكما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] فهذا النعيم إنما هو في حق المؤمنين إذا آمنوا واتقوا، لكن لما نسوا ما ذكروا به، نسوا الإيمان وتخلوا عن التوحيد إلى الشرك والبدع والضلال، وتخلوا عن الطاعة وأخذوا المعصية وتركوا أمر الله تبارك وتعالى إلى ما حرم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وانظروا إلى الإحصائيات الدولية في التفوق المادي، الدول الغربية هي الأولى في إنتاج الذهب، والفواكه، والزراعة، والصناعة، وكل شيء، ولا تنسى الجانب الآخر، فهي في الجرائم متفوقة متقدمة، وفي الاختطاف متفوقة متقدمة، وفي الزنا متفوقة متقدمة، وفي الإيدز متفوقة متقدمة، فهي الأولى في كل شيء.
ولكن ما هي النتيجة بعد ذلك؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] وقال تعالى في آية أخرى حَتَّى إِذَا الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] حتى أنهم درسوا كيف يواجهون الأعاصير - الإعصار الذي يأتي وقد يكون قطره مائة كيلو متر أو أكثر من عرض البحر- بواسطة الطائرات وبواسطة العلم، وبواسطة كذا: وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24]، ظنوا أنهم يستطيعون حتى في الزلازل وحتى في الأعاصير.
فماذا تكون النتيجة؟! أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ [الأنعام:44] نعوذ بالله من عذاب الله، بغتة أي: فجأة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] وقال تعالى في آية أخرى: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]، وهذه قاعدة عامة، وهي: أن جميع الأمم أخذوا بذنوبهم، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14] فالذين طغوا في البلاد فإن الله لهم بالمرصاد في كل زمان وفي كل مكان، إذا قضى الله تبارك وتعالى أمراً، وسنة كونية؛ فإن هذه السنة لا تختلف ولا تتغير ولا تجامل ولا تحابي أحداً، بل ربما تكون العقوبة لمن يطيع الله تبارك وتعالى، ولمن يعصيه عن علم أشدُّ وأعظم من عقوبة من تنزل به وهو في غفلة وإعراض وراء إعراض.
4 - أثر المعاصي على أمن الفرد والمجتمع
لنحذر عقوبة الله تبارك وتعالى، ولنحذر أثر المعاصي وأثر الذنوب، فإنها هي التي تعكر الأمن، ولا بد أن نحذر أولاً من الشرك: لأن الشرك هو الذي يعكر أمن الإنسان، فالإنسان الذين تطارده أشباح الشياطين والدجالين ووساوس المشعوذين؛ لا ينام ولا يهدأ ولا يستقر؛ لأنه قد لبس إيمانه بظلم وهو الشرك، فليس من أهل الأمن ولا من أهل الهداية.
وأيضاً: الإنسان الذي يعصي الله تبارك وتعالى، فإنه قد تأذن أن يذل من عصاه، وكتب أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا بد أن يذل وأن يشقى، ولا بد أن يتنغص ويتكدر عيشه بمقدار ما يعصي الله تبارك وتعالى.
أما بالإيمان بالله سبحانه فإن الخير والسعادة والنجاح والفلاح يتحقق للإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ولما أخبر الله تبارك وتعالى وبدأ القصة عن فرعون وجبروته وطاغوتيته قال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] سبحان الله! التمكين والنصر والعز يكون للمؤمنين وإن كانوا أقلية، مهما كان ضعفهم ومهما كانت قلتهم، وقد تحقق ذلك، فقال في سورة أخرى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، فذهبت حضارة فرعون وذهبت أمجاده ودمرت، وأورث الله تبارك وتعالى المستضعفين الذين كانوا مؤمنين متمسكين بما أنزل الله تبارك وتعالى، والذين ثبتوا مع نبي الله موسى، ثم من بعده فتحوا وأطاعوا الله، فأورثهم الله تبارك وتعالى مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها.
الإيمان بالله شرط في التمكين في الأرض
التمكين إنما يكون لمن آمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول الله تبارك وتعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:39-41] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد وعد من يحقق ذلك بأن يمكنه ويعزه ويُؤَمِّنه ويطمئنه في الدنيا والآخرة,.
ويقول أيضاً جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] أي: لا تخافوا من أمرٍ أنتم مقبلون عليه، ولا تحزنوا عما تركتم وراءكم أو عما خلفتم، لا خوف عليكم ولا حزن، بل هو الأمن والطمأنينة التامة لأنهم كانوا في الحياة الدنيا مطمئنين بذكر الله، وبتقوى الله، ومطمئنين بامتثال طاعة الله تبارك وتعالى، فكانت عاقبتهم أيضاً أن يطمئنوا برضى الله تبارك وتعالى، وبالقرار والفوز برضاه، وبرؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتي هي أعظم نعيم.
فإذن العلاقة بين الأمن والإيمان، ومن جانب آخر بين الذنوب والمعاصي، وبين الجريمة والنكد والمعيشة الضنك، علاقة واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا أردنا الإصلاح -ونحن نريده بإذن الله- فما أقرب طريقه.
طريق الإصلاح يكون بالعودة إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان قد قبضه الله إليه فإن سنته بين أيدينا، ومنهج الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ومنهج كل المسلمين الذين كانوا يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على تقوى الله تبارك وتعالى.
فرجل الأمن أو الهيئة أو أي مسلم هو مسئول عن أمن أمته، مسئول أولاً عن أمن نفسه، أن يؤمِّنها بالتوحيد، ويؤمنها من خوف عذاب الله، ويؤمِّنها بتوحيد الله من تعكير الشرك ودواعي الشرك، وأن يؤمِّن إخوانه المسلمين، {فإن المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم }.
وأيضاً مسئول عن أمن مجتمعه كله،فإن المسلمين يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على من يعكر أمنهم ويعبث به، وكل مجرم وعاصٍ لله تبارك وتعالى فإنه معكر للأمن.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإنقاذ المجتمع
هذا المجتمع كسفينة كما ضرب المثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل القائم في حدود الله والواقع فيها -القائم أي: على الأمور كما ينبغي، ومثل الواقعين أي: المرتكبين لما حرم الله- كمثل قوم استهموا في سفينة فكان قوم في أعلاها وقوم في أسفلها } فكون هذا الإنسان مسئول وكون هذا الإنسان أقل، هذا مثل الاستهام في القدر، والله تبارك وتعالى هو الذي يقدر، وإلا كم من مسئول برتبة كبيرة ودونه إنسان أقل منه لكنه أكثر منه عقلاً أو ذكاءً أو علماً، فالغنى والمنصب وأمثال ذلك كلها بتوفيق وبقدر من الله تبارك وتعالى، فلا يتكبر أحد على أحد نتيجة ماله أو منصبه، فإنما هي مثل الأسهم، كأنهم استهموا فكان هؤلاء في أعلاها وهؤلاء في أسفلها.
فهذه السفينة إذا خرقت من أي مكان فإنها تغرق جميعاً، ولهذا نقول: إن من يعصي الله تبارك وتعالى فإنه يعكر على نفسه وعلى مجتمعة كله، بالتبرج أو بالربا أو بالزنا أو بالاختلاط أو بالخمر، أو بأي معصية مما حرم الله تبارك وتعالى.
{ فكان الذين أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، } أي: إذا أرادوا أن يحققوا أي أمر يأخذونه عن طريق الذين في القمة الذين هم مسئولون عن إعطائهم هذا الحق وهذا الأمر وهذا المطلب، فقالوا: {فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا } لماذا نصعد إلى أعلى والماء عندنا هنا قريب؟! فلو خرقنا هاهنا لأخذنا الماء من قريب، وهكذا كل إنسان، إذا أراد أن يعف نفسه عن الشهوة -مثلاً- شرع الله تبارك وتعالى له أن يتزوج، والزواج يحتاج إلى صعود إلى فوق، كأن تذهب وتبحث عن الفتاة المؤمنة ثم تدفع المهر، ثم تذهب إلى من يعقد، فهذا فيه صعود إلى أعلى، لكن الزنا قريب ولا يتطلب هذا الطلوع، لكن ما هو الحال وما هي النتيجة بعد ذلك.
{ فإن أخذوا على أيديهم نجو ونجو جميعاً } فالطبقة التي هي مسئولة عن الأمن، ومسئولة عن المجتمع ومنهم الأب والأم -الزوجة راعية أيضاً في بيت زوجها- إن أخذوا على أيديهم نجو جميعاً، { وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً } ولكن إن تركوهم فخرقوا السفينة غرقوا، ولو كانت السفينة طولها ألف متر أو أكثر وحفرت في ركن من أركانها لغرقت جميعاً، فلا يقول إنسان: أنا هنا بعيد لن يصيبني شيء، وذاك الذي يعصى الله تبارك وتعالى بعيد هناك، لا، بل يجب إذا أردنا الأمن والرخاء لأمتنا ولأنفسنا أن نكون يداً واحدة على تقوى الله تبارك وتعالى، ويداً واحدة على طاعة الله تبارك وتعالى، ونحقق الإيمان في قلوبنا ونحقق ما أمر الله تبارك وتعالى به ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحينئذٍ تكون السعادة وتكون الطمأنينة، ويتبدل الحال بعد الذل عزاً، وبعد الفرقة اجتماعاً، وبعد الشدة رخاءً، وبعد القحط غيثاً ورحمةً.
وهذا من فضل الله تبارك وتعالى أن جعل الله تبارك وتعالى باب التوبة مفتوحاً لأعدى أعدائه، فما ظنكم بمن يأتي بالمؤمنين الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله فيخد الأخاديد -الحفر العميقة- ويلقي النار فيها ويلهبها، ثم يقذف بهم وهم أحياء في هذه النار، وانظروا إلى هذا الذي يحارب الجبار -سبحانه وتعالى- بهذا النوع من أنواع الحرب، يحرق أولياءه وهم أحياء، ومع هذا يقول الله تبارك وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] ثم لم يتوبوا: سبحان الله! يعرض الله التوبة حتى على أعدى أعدائه، فما بالكم بأوليائه الذين غرقوا في الغفلة، وأطغتهم النعمة وبطروا معيشتهم ونسوا أوامر الله تبارك وتعالى، وتراخوا في تطبيق أوامره، مع أنهم لم يشركوا بالله، ولم يرضوا ولم يجاهروا حد المجاهرة الواضحة، فما بالكم بأوليائه! إذاً هم أحوج إلى التوبة، وفي نفس الوقت هم أقرب إلى أن ينالهم رضا الله ورحمته تبارك وتعالى، فلا نيأس من رحمة الله ومن روح الله تبارك وتعالى، ولا نيأس من إصلاح مجتمعنا، وإعادته إلى مثل ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمن والطمأنينة، لأننا إذا بذلنا الجهد الصحيح، والحكمة والموعظة الحسنة، والنصيحة تلو النصيحة، وأخلصنا العمل لله سبحانه، وتبنا إلى الله فإن الله تبارك وتعالى يغيثنا بالإيمان في قلوبنا، وبالمطر والرحمة في أوطاننا، وبالأمن الذي هو النعمة التي يفقدها العالم اليوم، ولا يغني عنها أية نعمة من النعم، ولا يجدي ولا ينفع مع فقدانها أي رغد ولا أي نوع من أنواع الحضارة والتقدم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب.
ونسأل