بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الحدود في الإسلام
قد يقول قائل: إذا كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم واسعة، فلماذا كان يرجم الزاني المحصن ويقطع يد السارق ويقتل القاتل؟! أليس من الرحمة أن يعفو عنهم؟!
الحدود .. رحمة بالمجتمع
نقول: إن هناك نقطة مهمة تغيب عن أذهان أصحاب الشبهات, وهي أنهم ينظرون بعين الرحمة إلى المُذنِبِ, ولا ينظرون بعين الرحمة على المجتمع الذي عانى من ذنبه, فإذا نظرت بعين المحلِّل المتجرِّد من الهوى وجدت أن كل الحدود التي فرضها رب العزة قد فُرِضَت على جرائم تؤثر سلبًا على المجتمع, وقد يعانِي منها صاحبُ الشبهة شخصيًّا, ولو عانى منها لكان رأيه مختلفًا, فلا شك أنه لو سرق أحدٌ رأس ماله, وثمرة جهده لتمنى عقابه بأقسى عقاب, ولو اعتدى أحدهم على ابنته أو زوجته أو أُمِّه لسعى إلى قتله بنفسه قبل المحاكم, وهكذا..
فالحدود شُرِعَتْ رحمةً بالمجتمع, وترهيبًا لعموم الناس أن ينخرطوا في طريق الجريمة, وهذه رحمة بهم أيضًا من وجه آخر, ثم هي كَفَّارة عن الذنب الذي فعله العبد, ومن ثم يُهَوِّن عليه من حساب الآخرة وهو أَشَقُّ وأَشَدُّ..
روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ليلة العقبة: "تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا, وَلا تَسْرِقُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ, فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ؛ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ, وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ, قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ"[1].
فتطبيق الحدود -والتي تبدو قاسية- رحمة للمجتمع, ورحمة لأنها تمنع الناس من ارتكاب الجرائم, ورحمة كذلك لأنها تكفِّر الذنب عن فاعله..
ثم فوق كل ما سبق, وقبل كل ما سبق, هي أوامر من رب العالمين , واجبة التطبيق, والله أعلم بما يُصلِحُ عبادَه وكونه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُطبِّق لقوانين الشريعة دون إفراط ولا تفريط, ولم يكن يطبِّق هذه الحدود على طائفة من الناس دون طائفة, ولا على قبيلة دون أخرى, إنما كان يُنفذ قانونًا عامًّا يهدف لراحة وأمن الجميع, ولقد غضب غضبًا شديدًا عندما حاول بعض الصحابة[2] أن يتوسَّط لامرأة ذات نسب من قبيلة بني مخزوم كي لا تُقطَعَ يَدُها في جريمة سرقة, وأصرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تطبيق الحد, وخطب خطبة بليغة وضَّح فيها منهجه في معالجة الجريمة, وكان مما قاله في هذه الخطبة: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[3].
إن القانون عام, وفي باطنه رحمة واضحة جليلة لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد..
ثم إن الجانب الأروع والأجمل في المسألة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوفًا إلى إقامة الحدود, ولا متمنيًا لرجم أو قتل أو قطع.. إنه كان يحاول قدر جهده أن يجد مخرجًا للمُذنِبِ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ"[4].
ألا ما أروع هذا الكلام, وما أرحمه!!
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتصيَّد الأخطاء للمذنبين, بل إنه يتغاضى عن الأمر تمامًا إن لم تكن البينة واضحة, والدليل كافيًا..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ, فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ"[5].
يقول السيوطي[6]تعليقًا على هذا الحديث: "أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إليَّ فإني متى علمتها أقمتها"[7].
موقف صفوان بن أمية
وهذا المعنى وضح في موقف صفوان بن أمية رضي الله عنه عندما رفع أمر رجل سرقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق وذلك تطبيقًا للحد, فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ أُرِدْ هَذَا رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ, فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ"[8].
إنها دعوة رحيمة صريحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية رضي الله عنه, وإلى عموم المسلمين أن يجتهدوا في تعافي الحدود فيما بينهم, وألا يرفعوا الجرائم إليه إلا في آخر المطاف..
وقد حدث في قصة ماعز[9] رضي الله عنه ما يؤيد ذلك؛ لأن رجلاً من الصحابة اسمه هزَّال[10] هو الذي دفع ماعز إلى الاعتراف بجريمة الزنا, فلما أصرَّ ماعز على الاعتراف بالجريمة رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ماعزًا كان محصنًا, لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع الأمر يمر دون أن ينصح لهزّال -والأمة من بعده- قائلاً: "وَاللَّهِ يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ"[11].
قصة ماعز
وما دمنا قد ذكرنا أمر ماعز فما أجدرنا أن نعرَّج على قصته لنرى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رُفع له أمر رجل زنى وهو متزوج..
يروي بريدة بن الحصيب رضي الله عنه فيقول: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رسول الله طَهِّرْنِي, فَقَالَ: "وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ". قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ, ثُمَّ جَاءَ؛ فَقَالَ: يَا رسول الله طَهِّرْنِي, فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ". قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ؛ فَقَالَ: يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم طَهِّرْنِي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: "فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟" فَقَالَ: مِنْ الزِّنَا؛ فَسَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَبِهِ جُنُونٌ؟ "فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ: "أَشَرِبَ خَمْرًا؟" فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ: فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَزَنَيْتَ؟" فَقَالَ: نَعَمْ"[12].
إننا نرى هنا موقفًا من أعظم مواقف الرحمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه موقف رجم لإنسان, وهو أمر شديد ولا شك..
إن ماعزًا جاء ليعترف بالزنا ليقام عليه الحد, جاء معترفًا دون أن يُكرهه أحد, لقد جاء تائبًا مقرًّا بذنبه يريد أن يتخلص منه في الدنيا قبل حساب الآخرة, والحدود كفارة كما ذكرنا قبل ذلك..
وقد جاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: طهرني, وقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوهلة الأولى أن الرجل قد ارتكب ذنبًا عظيمًا, فلا شك أن هذا كان باديًا على قسمات وجهه, وعلى نبرات صوته, لكنَّه مع ذلك لم يسأله عن ذنبه, ولو من باب الفضول, فإنه أراد أن يتكتم عليه لئلاَّ يقيم عليه حدًّا, وهذا من رحمته العظيمة , ولكن ماعزًا كان مُصِرًّا على الاعتراف, وصرَّح في المرة الرابعة بذنبه, ومع ذلك لم يتلقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه الاعتراف كما يحدث في كثير من بلاد العالم ويسجله عليه, بل راجعه أكثر من مرة ليتراجع, وذلك رحمة به, فسأل عن عقله: هل به جنون؟ فقالوا: لا, فسأل عن شربه للخمر فلعله قد أذهب عقله فاعترف بما لم يفعل, وحد الخمر أهون من حد الزنا للمحصن, ولكن ماعز لم يكن شاربًا للخمر..
إنها محاولات حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء الحد, والتجاوز عن ماعز, بل إنه -في روايات أخرى- التفت إلى قوم ماعز وسألهم: "أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا"؛ فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلا وَفِيَّ الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى[13].
وفي رواية أخرى حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجد له مخرجًا حتى بعد اعترافه بالزنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ[14]أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لا"[15].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في نفسه لعل ماعزًا لم يَزْنِ حقيقةً, ولكنَّه تأول بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يشير فيها أن العين إذا نظرت نظرًا مُحرَّمًا فهو نوع من الزنا, وكذلك اليد وباقي الأعضاء, وذلك مثـل قوله: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ؛ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ, وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ, وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي, وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"[16].
ومن هنا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة محاولاً إخراجه من أزمة إقامة الحد عليه..
وأُقِيمَ الحد على ماعز كما قضت الشريعة, فرُجِمَ بالحجارة..
أو لعله مناسبًا وحقيقيًّا أن نقول: أقيم الحد على ماعز كما تمنَّى هو وأراد..
إن الشريعة الإسلامية رحمة كلها, وليست الشريعة حدود صارمة لا قلب لها ولا عاطفة, ولكنها منظومة كاملة, وكما كان في هذه المنظومة إقامة الحدود للردع, كان فيها تربية الشعب على التقوى ومراقبة الله , حتى يصل الأمر على أن يأتي الزاني المحصن ليعترف بجريمته ويُرجَمَ مع أنه ليس عليه شهود!!
تعليق على قصة ماعز بن مالك
وهل وقفت قصة ماعز عند هذا الحد؟!
في الحقيقة لقد بقيت نقطتان مهمتان أود الإشارة إليهما, ولهما علاقة وثيقة بموضوعنا..
جريمة الزنا
أما النقطة الأولى فهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ليلاً في اليوم الذي رُجِمَ فيه ماعز..
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقرأ الشبهات التي من الممكن أن تثار حول الحدث, ولا شك أنه أدرك أن هناك في المدينة, أو في الدنيا بعد ذلك من سيشفق على ماعز, ويقترح عدم إقامة الحد ما دام قد أعلن توبته وجاء نادمًا, ولكن أنَّى لنا أن ندرك صدق التوبة من كذبها!! إن التوبة عمل قلبي بين العبد وربه, ولو لم يُقَمِ الحدُّ عند ثبوت الجريمة بدعوى توبة الفاعل لكان هذا داعيًا لكل المجرمين أن يأتوا ما شاءوا من الجريمة ثم يعلنوا -صدقًا أو كذبًا- أنهم قد تابوا..
لقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة نبَّه الناس فيها إلى أن الموقف المأساوي الذي تعرَّض له ماعز عندما رُجِمَ لا يجب أن يصرف الناس أو يلهيهم عن الجريمة التي تمت.. لقد اعتدى ماعز على حرمة امرأة, واعتدى على حرمة البيت الذي خرجت منه, واعتدى على حُرمَة زوجها أو أبيها أو أخيها, واعتدى على حرمة المجتمع..
إن هذا فاحشة مبينة لو تخيلتها تحدث مع بعض ذويك ومحارمك لطالبت فورًا برجم الفاعل, ثم إن هذه الجريمة قد تنتج طفلاً بريئًا -وهذا قد حدث فعلاً في قصة ماعز- سيظل معذَّبًا طيلة عمره, مع أنه لم يرتكب شيئًا..
إن آثار جريمة الزنا وخيمة على المجتمع بكامله.. وآهٍ لو سرت الفاحشة في مجتمع من المجتمعات, وراجِعوا إحصائيات أولاد الزنا في المجتمعات الغربية الآن, بل راجعوها في المجتمعات الإسلامية التي لا تطبق شريعة رب العالمين.. إن الأمر جد خطير, والقضية لا تحتمل تهاونًا أو تفريطًا..
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية هذا الحدث الكبير ليعلق أمام الجميع أن الحد قد أقيم رحمة بالمجتمع, ورحمة بالإنسانية, ولم يكن الفرض منه قسوة بإنسان, أو تشهير بمذنب..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أَوَ كُلَّمَا انْطَلَقْنَا غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا لَهُ نَبِيبٌ[17] كَنَبِيبِ التَّيْسِ!! عَلَيَّ أَنْ لا أُوتَى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ إِلا نَكَّلْتُ بِهِ"[18].
لقد كانت كلمات في منتهى التوفيق والروعة والحكمة!!
إنه يطلب من الناس أن يَحْكُموا عواطفهم بعقولهم..
إنه يصور موقفًا لا تطيقه نفس بشرية..
يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قاسية قد يتعرض لها أي فرد في المجتمع إذا سرت فيه الفاحشة..
الناس يخرجون في عمل نبيل شريف, وهو الجهاد في سبيل الله, دفاعًا عن حقوق الشعب بكامله, وحرصًا على كرامة الأمة بكاملها, فإذا بأناس قد غدروا بهم, ولم يقدروا حرمتهم, فانتهزوا فرصة غيابهم, وسطوا على أعز ما يملكون وسطوا على شرفهم, واعتدوا على نسائهم..
يا للجريمة البشعة!
ثم هو يشير بالتصريح إلى أن هذه الجريمة قد تحدث مع أي إنسان في المجتمع حتى مع هذا الذي أخذته الشفقة على المجرم.. إنه يقول : "تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا" إنهم عيالنا.. إنهم نساؤنا.. إن المصيبة تخصنا..
نحن الذين سندفع ثمن انتشار الرذيلة لا غيرنا..
ويشير رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا في كلمته أن الذي يفعل هذا الجرم الشنيع يفعله متشبهًا بالحيوانات, "لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ", فقد تجرد في لحظة الفعل من كل مشاعر الإنسانية, فلا تأخذكم به رأفة..
وأخيرًا فإنه يُعلن في منتهى الصرامة أن الذي سيأتي هذا الفعل الشنيع سيكون عقابه نفس العقاب دون تهاون..
إنه ليس حق رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصي حتى يفرط فيه أو يتنازل عنه, إنه حق الله أولاً, وحق المجتمع والشعب ثانيًا, وسوف ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن..
كانت هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أشير إليها بخصوص قصة ماعز..
توبة ماعز
أما النقطة الثانية فرائعة أيضًا!!
كيف كان الوضع في المدينة المنورة بعد هذا الحدث المهم؟! وماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدال الذي دار بين الناس بعد ذلك؟!
يقول بُريدة : فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ (أي في ماعز) قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ, وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ إنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ, ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ. قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً, ثُمَّ جَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ, ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ". قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ"[19].
الله أكبر!!
إننا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نحيط برحمته ...
إنه مع كراهيته الشديدة للفعل, ومع نهيه المستمر للناس أن يفعلوا مثلما فعل ماعز, ومع تحذيره من تكرار الأمر, مع كل ذلك لا يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلن أمام الناس جميعًا أن الله قد غفر لماعز خطيئته!
لا يتردد أن يطلب من الناس أن يستغفروا له!!
إنه لا يحق للناس أن يخوضوا في عرضه مادام الحد قد أقيم عليه, ومادام قد أعلن توبته أمام الجميع.. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف آخر يدافع عن ماعز دفاعًا كبيرًا رحمةً له ورأفةً به..
يقول أبو هريرة: "سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ؛ فَسَكَتَ عَنْهُمَا, ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِل بِرِجْلِهِ؛ فَقَالَ: "أَيْنَ فُلانٌ وَفُلانٌ؟" فَقَالا: نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "انْزِلا فَكُلا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ"؛ فَقَالا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟!! قَالَ: "فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ[20] فِيهَا!"[21].
ولا أفضل من ختام لهذا المقال من قول ربنا في حق الرسول : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة, باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة (3679), ومسلم: كتاب الحدود, باب الحدود كفارات لأهلها (1709), والترمذي (1439), والنسائي (4161), وأحمد (22720), والدارمي (2453).
[2] هو أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[3] البخاري: كتاب الأنبياء, باب "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم" (3288), ومسلم: كتاب الحدود, باب قطع السارق الشريف وغيره (1688), وأبو داود (4373), والترمذي (1430), والنسائي (4898), وابن ماجة (2547), وأحمد (25336), والدارمي (2302), وابن حبان (4402).
[4] الترمذي (1424), والبيهقي في سننه الكبرى (16834), والحاكم (8163), وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
[5] أبو داود (4376), والنسائي (4886), والبيهقي في السنن (17389), وقال الألباني: حسن (2954) في صحيح الجامع.
[6] عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (849-911 هـ), من مؤلفاته الدر المنثور وشرح صحيح مسلم, وكان حسن المحاضرة. نشأ في القاهرة يتيمًا, وكان الأغنياء والأمراء يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردها, انظر: الأعلام للزركلي3/301.
[7] نقل هذا القول محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب في عون المعبود في شرح سنن أبي داود 12/27.
[8] النسائي (4884), وابن ماجة (2595), وأبو داود (4394) أحمد (15338), ومالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (684).
[9] ماعز بن مالك الأسلمي, معدود في المدنيين, وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بإسلام قومه, وهو الذي رُجِم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزأت عنهم. الاستيعاب 1/418, الإصابة الترجمة (7586), وأسد الغابة4/216.
[10] هزَّال بن يزيد بن ذئاب الأسلمي له صحبة, ووقع ماعز على جاريته؛ فقال له هزال: انطلق فأخبر رسول الله فعسى أن ينزل فيك قرآن؛ فانطلق فأخبره فأمر به فرجم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سترته بثوبك لكان خيراً لك. الإصابة الترجمة (8952).
[11] مالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (1499), وبرواية محمد بن الحسن الشيباني (700) أبو داود (4377), أحمد (21945), وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن, والحاكم (8080)وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
[12] مسلم: كتاب الحدود, باب من اعترف على نفسه بالزنى (1695).
[13] مسلم: كتاب الحدود, باب من اعترف على نفسه بالزنى (1695).
[14] بعينك أو بيدك بمعنى "لمست".. انظر فتح الباري 12/135.
[15] البخاري: كتاب المحاربين من أهل الكفر والرِّدَّة, باب هل يقول الإمام للمُقِرِّ: لعلك لمست أو غمزت (6324), وأبو داود (4427), أحمد (2433).
[16] البخاري: كتاب الاستئذان, باب زنا الجوارح دون الفرج (5889), ومسلم: كتاب القدر, باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (2657), وأبو داود (2152), وأحمد (7705)..
[17] نبيب: صوت التيس عند الجماع.
[18] مسلم: كتاب الحدود, باب من اعترف على نفسه بالزنا (1694), وأبو داود (4422), وأحمد (20822), والدارمي (2316), وابن حبان (4436).
[19] مسلم: كتاب الحدود, باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695), والدار قطني (39), والطبراني في الأوسط (4843),
[20] ينقمس: ينغمس
[21] أبو داود (4428), والبيهقي في شعب الإيمان (6712), وابن الجارود في المنتقى (814).