خطبة حجة الوداع
قال ابن إسحاق رحمه الله : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله . إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان . أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، أمرا بينا ، كتاب الله وسنة نبيه . أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ا شهد )
تاريخ الخطبة
خطبة الوداع هي آخر خطبة ألقاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه هي الخطبة التي ألقاها بجبل عرفات في التاسع من ذي الحجة سنة 10 هـ. ويمكن اعتبار حجة الوداع أكبر تجمع إسلامي في العهد النبوي، فقد تجمع بعرفات في ذلك الوقت نحو 125 ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ألقى رسول الله هذه الخطبة قبل وفاته بنحو شهرين، وأعلن فيها بصورة أخيرة ونهائية كل تلك الأشياء التي بعث من أجلها
تسميتها
وسبب تسميتها بخطبة الوداع ظاهر، فقد كانت إيذانا بدنو أجله - صلى الله عليه وسلم - وتوديعا منه لأصحابه رضوان الله عليهم، وذلك في هذا اللقاء المهيب الذي كان في علم الله وفي إلهام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاء توصية ووداع !
يقول ابن هشام في بيان سبب تسمية هذه الخطبة خطبة الوداع: لم يحج - صلى الله عليه وسلم - بعدها، وقيل لأنه ودع فيها الناس وأعلمهم بدنو اجله). وعند البخاري من رواية ابن عمر قال: ((.وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات، في الحجة التي حج، وقال: (( هذا يوم الحج الأكبر)). فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( اللهم اشهد)). وودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع..)) [كتاب الحج/ 1742] ومن الناس من يكره تسميتها بذلك، ويسميها حجة الإسلام.
ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلا حجة واحدة في السنة العاشرة وهي حجة الوداع، وأما قبل الهجرة فقد حج حججًا كثيرة، ولذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح [8/107] : ( بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، فإذا كان هذا حال قريش. فكيف يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يتركه؟! ) أهـ مختصرًا. والمقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حج حجتين قبل الهجرة يقينا، وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة.
هذا وقد اجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحجة ما لم يجتمع مثله معه في أي مشهد آخر، فقد كانوا أحرص الناس على الحج معه والتأسي به - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد اختلف في عدد من شهدوا معه هذا المشهد: فقيل إنه قد حج معه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحجة مائة وأربعة وعشرون ألف نفس، وقيل: مائة وأربعة وأربعون ألفًا.
الدراسة:
يستهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خطبته بقوله:
((أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبداً)).
نلحظ أول ما نلحظ هذا النداء القريب إلى النفوس، إذ استغنى عن أداة النداء ((يا))، وغيرها تحقيقاً لهذا القرب والتلاحم مع أبناء الأمة الذين زالت الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم.
إن حذف أداة النداء قد حقق هذا القرب والتلاحم، فكأن الناس قريبون إليه يناديهم بأرق النداء وأعذبه ليستميل قلوبهم إلى ما يلقي عليهم من حسن التوجيه وسديد الإرشاد.
ويا للنداء وضع في أصله لنداء البعيد، بدليل أنهم عدوا الأداتين ((الهمزة وأي)) للقريب
وأما ((يا)) فقال ابن الحاجب: أنها حقيقة في القريب والبعيد لأنها لطلب الإقبال مطلقاً، وقال الزمخشري: إنها للبعيد))
وإذا كان الأمر كذلك فإن من الواضح أن يكون حذف أداة النداء دالاً على قرب المنادي للمنادى، والالتصاق به والتحبب إليه:
وليس يسعنا في هذا الموضع أن نحمل حذف الأداة على خلاف مقتضى الظاهر، لأن ذلك يدعونا إلى القول إن المنادى ممن سها أو غفل، وما كان له أن يكون على ذلك الحال، إلا أن حذف الأداة هنا جاء على الحقيقة والحال وليس عدولاً عنها تنزيهاً من الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين عن السهر والغفلة.
((اسمعوا قولي)) اسمعوا فعل أمر، وللأمر وجهتان في التعبير البلاغي: حقيقي ومجازي، وللمجازي أغراض متعددة.
ينبغي أن نحدد بادئ ذي بدء مدلول الأمر الحقيقي والمجازي لنتبين في أي المسارات تتجه هذه الصيغة.
الأمر الحقيقي: ((صيغته موضوعة لطلب الفعل استعلاماُ، لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة))
أما صيغة الأمر المجازي – فكما قال القزويني – قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام، كالإباحة... والتهديد... والتعجيز... والتسخير))
وإني أرجح أن الأمر في هذا الموضع مجازي، وذلك بدلالة الاستهلال الرقيق، فلا يسوغ أن يكون النداء يحمل في تضاعيفه من معاني التودد والتلطف ثم يعثبه مباشرة بما يدل على الأمر خشية أن يقع ذلك من نفوس سامعيه موقعاً لا يرتضيه، ولما يحصل من التفاوت بين الرقة والتلطلف وبين الشدة التي يحملها الأمر الحقيقي مدلولاً من مدلولاته.
أقول ذلك من غير أن يتبادر إلى الذهن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا قبل له بأن يأمر قومه بما يشاء فيطاع، هذا أمر لا مشاحة فيه بقدر ما نود أن نرسم من خلال هذا المقطع صورة التناغم البياني بين أجزاء المقطع، وتلك خصوصية من خصوصيات البلاغة النبوية الكريمة. ولذلك فإن المعنى المجازي الذي أرجحه من خلال صيغة الأمر هو لفت الأنظار وتوجيه النفوس أو تنبيه الجمع المخاطب إلى ما يعرضه عليهم من توجيهات.
وما يلي هذا الأمر من العبارات يعزز مجازيته، وذلك في قوله (صلى الله عليه وسلم):
((فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا...)) فجملة المقطع تتسم بالإنسيابية وهدوء النبرة، مما يتسق مع مجازية الأمر السابق على هذا المقطع، ولما في الأمر الحقيقي – لو كان المراد – من القوة والشدة.
فإني لا أدري...: إن: من أدوات التوكيد، وهي ترد في غضون الخطبة بكثرة ملحوظة، ولكل موضع ترد فيه ((إن)) دلالة التوكيد والأهمية.
فهل كانت ((إن)) من مؤكدات مضمون هذا القول، وهل هي من مقتضياته؟
أما كان منتظراً أن يقول: فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا؟.
أقول: لو جاء الكلام على هذه الشاكلة لما تأتى لهذا الكلام أن يفعل فعله التوجيهي العقائدي.
إن جو الكلام منذ استهلاله يوحي بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وقف وقفة الوداع، فأراد أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه – وإن كان رسولاً يوحى إليه – فهو لا يدري متى سيكون رحيله.
– فإني لا أدري –: أي حتى هو بوصفه نبياً يوحى إليه – يجهل حقيقة هذا الأمر، ولعل مما يخالج نفوس المسلمين من أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعلم بذلك، فلكي يستقر هذا المفهوم بكل أبعاده من غير أن يعتري السمع شك في ذلك جاء بصيغة التوكيد الذي من شأنه أن يرسخ الفكرة في الأذهان.
وربما يرد في هذا الموضع سؤال مفاده: أليس هذا يعني أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أوحي إليه بدنو أجله؟.
نقول: ربما أوحي إليه بذلك، ولكن لم يرد أن يقطع بشيء من ذلك، فالله وحده الذي يقرر. والاستشعار بدون الأجل ليس معناه معرفة ساعة الرحيل على وجه الدقة والضبط، ثم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يشأ أن يجعل المسلمين في دوامة الاضطراب والقلق خشية أن ينفرط شملهم ويصيبهم من الذهول ما لا يرتضيه لهم.
ومن الملاحظ البلاغية في استخدام ((إن)) في هذا الموضع أنها جاءت في عقب جملة سابقة فقد كان مجيء ((إن)) ضرباً من ضروب التوثيق بين الجملتين.
قال الزملكاني: ((وتجيء – أي إنّ – اربط بين جملتين لتوصل أحداهما بالأخرى، فتراهما بعد دخولها كأنهما قد افرغا في قالب واحد))
ويرى الزملكاني أنه يسع المتكلم أن يأتي بالفاء مكان ((إن)) ولكن لا تؤدي مؤداها من قوة الربط والتوكيد والامتزاج.
يقول في ذلك: ((... لرأيت الامتزاج والألف مقاصراً عما كان عليه))
ولعل في هذا جواباً على تساؤلي في موضع سابق: ألم يكن منتظراً أن يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): ((اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم))، ففي كلام الزملكاني ما يغني عن التفصيل والبيان.
((لعلي)) أداة الترجي، هذه الأداة لم تحظ بعناية البلاغيين قدر ما عدوه أداة نحوية فحسب.
وكان الأجدر البلاغيين أن يتحدثوا عن هذه الأداة في جملة ما تحدثوا به عن غيرها من أساليب التعبير كالأمر والاستفهام والنهي والتمني وأن يعدوها في الإنشاء غير الطلبي بوجه خاص، كما فعلوا بصنوها ((ليت)).
والمعنى الأساس للأداة ((لعل)) هو الترجي. ولو تتبعنا دلالاتها المجازية لوجدت أنها تخرج إلى معان أخر، وربما كان التقرير أو التمويه أو التمني من جملة دلالاتها.
وإني انفي أن تكون دلالتها في الخطبة ترجياً، بل هو تقرير وإشعار بدنو الأجل، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يجعل الأمر مرهوناً بالآجال التي قرر أنه لا يدري مواقيتها.
ويحجزنا الحياء عن القول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يموّه على أصحابه الأمر، فيبعد أذهانهم من قضية رحيله وفراقه، فساق الموضوع بصيغة تقريرية تنسحب دلالتها على كل إنسان، فكلنا معرضون للموت في كل لحظة.
ترد بعد ذلك الحقائق التي أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يغرسها في نفوس المسلمين على أنها أحكام للحياة لا تحتمل تأويلاً ولا تقبل حيدة أو جنوحاً. فجملة ما واجه به المسلمين وردت بصيغة التوكيد الحقيقي.
وقد قرر البلاغيون أن ((الإهتمام بالشيء وانفعال النفس به يستوجب ضرباً من تأكيده، أمراً أو نهياً أو خبراً يستلزم طلباً أو خبراً يقع في الجواب))
وقد جاء التوكيد في مقاطع الخطبة بأكثر من وسيلة، وهي:
أداة التوكيد ((إنَّ)) والتكرار، وتقديم ما حقه التأخير (ومنه القصر)، وأدانا التحقيق والتوكيد ((قد وكل)).
ومما جاء مؤكداً بإن:
((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...))
((وإنكم ستلقون ربكم...))
((وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله...))
((وإن كل دم في الجاهلية موضوع))
((وإن أول دمائكم أضع...))
ومما جاء مؤكداً بالتكرار:
((كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا...)).
إن حرمة الأموال والدماء ولقاء الله ووضع الربا والدماء مما تعد من كبريات القضايا التي كانت تسود حياة العرب، وكان لابد لها من الحسم القاطع، تنقية للمجتمع الإسلامي من كل بقايا الجاهلية ومواريثها، ولذلك تصدرت هذه المقاطع أداة التوكيد ((إن)) التي تضمن الإيصال والتثبيت إضافة إلى حسم التردد والشك في القبول والتلقي.
ولقد ذهب البلاغيون إلى أن استخدام أداة التوكيد واحدة ضمن العبارة هي لحسم الشك والتردد. قال القزويني: ((وإن كان متصور الطرفين، متردداً في إسناد أحدهما إلى الآخر طالباً له حسن تقويته بمؤكد))
وليس هذا الأمر مطرداً على نسق متواصل، فقد يخرج استخدام الأداة في غير هذا الموضع مراعاة لغير الظاهر، كما قرر البلاغيون أنفسهم، فقد ذكر القزويني نفسه ذلك في قوله: ((وكثيراً ما يخرج على خلافه، فينزل غير السائل منزلة السائل – أي المتردد الشاك – إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب))
ونحن نقول: إن أداة التوكيد سواء أكانت واحدة أم أكثر فإنها تقيد توثيق الأمر وضمان حسن تلقيه وأثره في نفس المتلقي واتخاذ موقف معين مضامينه، سواء أكان في الأمر شك أم لم يكن، وإلى جانب ذلك إشعار بأهمية الأحكام المعروضة ضماناً لحشد الطاقات النفسية والاجتماعية لاجتثاث ما علق بالنفوس والواقع المعيش من آثار وقيم نسخها الدين الإسلامي.
يتبع