الوقفة الخامسة
بداية الجولات وتنقل الجماعات:سافر الشيخ محمد إلياس إلى الحجاز للحج والزيارة مع الشيخ خليل أحمد سنة
1344هـ، شعر خلال مدة إقامته بالمدينة المنورة بِهَمٍّ غريبٍ يساور نفسه،
وكان لا يرضى بالعودة إلى الهند، وكان يقول:
إن الله سبحانه وتعالى يريد مني خدمة، فشعرت باضطراب وهمٍّ نفسي بتولي هذه
الخدمة، كيف أتولى أمرها، وكيف أؤدي هذه الخدمة، وأنا ضعيف، فقضيت أياماً
في هذا القلق، ثم ذكرت ذلك لأحد الصالحين الذي كنت أعرف فضله وصلاحه وورعه،
فقال: هذا الأمر لا يبعث على القلق، لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن
يستخدمك، فكلمة الاستخدام تدل على أن القدرة الإلهية تساعدك في القيام بهذا
العمل الجليل، فعاد إلى الهدوء، واطمأن قلبي بهذا الرد المقنع.
جعل الشيخ محمد إلياس يقوم بجولات دعوية بعد عودته من الحجاز، وكان يعقد
حلقات دينية شعبية يدعو الناس فيها إلى الاشتغال بالدعوة في عامة الناس،
ويعلمهم أركان الإسلام الأساسية من الكلمة والعقيدة والصلاة، وكان الناس
يجهلون هذا المنهج في بداية أمره، ولا يرضون به إلا بجهدٍ بالغٍ وصعوبةٍ
كبيرةٍ.
عقد الشيخ محمد إلياس احتماعاً شعبياً كبيراً في مديرية (( نوح ))، ودعا
فيها الناس إلى القيام بجولات دعوية، والاختلاط بالناس، وتكونت جماعة بعد
شهر على رغبة منه، وتجولت هذه الجماعة في القرى المختلفة المجاورة. وذهبت
هذه الجماعة الى مديريات، وكان الشيخ محمد إلياس يذهب كل يوم الجمعة الى
المديرية التي كانت تقيم بها هذه الجماعة فيرتب لها النظام، ويعيد إليها
التنظيم.
هكذا بدأت جماعة الدعوة والتبليغ أعمالها الدعوية والإصلاحية في هذه
البلاد، وشقت طريقها إلى الأمام، وارتقت من أول يومها، ولا تزال ترتقي
وتزدهر وتتسع دائرتها، وآفاق عملها.
رحل الشيخ محمد إلياس إلى الحجاز للحج والزيارة مرة ثالثة سنة 1351 هـ،
وقام بجولتين في (( ميوات )) بعد عودته من الحجاز، وبسط شبكة من الجماعات
في طول هذه البلدة وعرضها، ولم يترك شبراً من الأرض إلا وطأه بأقدامه.
وبدأ الشيخ محمد إلياس يرسل أهل بلدة (( ميوات )) في بعثات إلى خارج هذه
البلدة، فكانت البعثة الأولى التي خرجت من هذه البلدة التي اتجهت إلى بلدة
(( كاندهلة ))، وهي كانت موطن الشيخ محمد إلياس، ويوجد فيها أعداد غفيرة من
العلماء والدعاة، وأرسل الشيخ محمد إلياس جماعة أخرى إلى بلدة (( رائيفور
)).
وانتشرت هذه الدعوة بسرعة غريبة في هذه البلدة، وأشرقت هذه المنطقة
المختلفة في العلم والدين والمتسكعة في ظلام الجهل والأمية، والمتهالكة على
أعمال النهب والسلب بنور الإيمان والعلم إشراقاً لا يعرف له نظير حتى في
الدول الراقية إلى أمد بعيد، وأصبحت المناطق التي كانت تخلو من المساجد
حافلة بالمساجد بجهود هؤلاء الدعاة المخلصين، وغدت الأماكن التي لا يسمع
فيها صوت القرآن الكريم يدوي فيها هذا الصوت المبارك، وأنجبت كل قرية من
قراها عدداً كبيراً من الحفاظ والعلماء، وجعل الناس يهجرون الملابس
الهندوكية وأخذوا يكتسون الثياب الإسلامية التي كانوا يرتدونها في السابق،
وبدأت العادات والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كانت تمارس في الأعراس
تتلاشى،
يقول رجل مسن من الميواتيين وهو يوضح الفرق بين الماضي الكالح والحال المشرق لبلدة (( ميوات )):
إن الأهداف التي كانت تبذل لها الجهود الجبارة وترصد لها المبالغ الهائلة
والأموال الطائلة تتحقق الآن بنفسها، والأمور التي كان منعها يؤدي إلى
صراعات عنيفة، واشتباكات دامية، وحروب طاحنة، وتثور بها عواطف الانتقام.
إن الذين شاهدوا هذين العهدين لبلدة (( ميوات )) يستطيعون أن يقدروا كيف
حوّل الشيخ محمد إلياس هذه البلدة التي كانت لا تبرق لتحولها بارقة أمل،
وكيف أنهضها من عثارها، وبدل أرضها غير الأرض، وجعلها بلدة مثالية بمخاطرته
وإيثاره ورزانته، وحلمه، وتضحيته بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات،
وآمال وأحلام، ويدل هذان الحادثان الآتيان على الوضع الذي كان يسود في ذلك
العصر الذي كان يشبه العصر الجاهلي في الاستكبار والعداء السافر للإسلام.
كان الشيخ محمد إلياس يتجول ذات يوم في قرية من قرى هذه البلدة، فلقيه رجل
من اهلها، فوضع يده على رأسه حبّاً له وعطفاً عليه، فاحمر وجهه، وثارت
ثائرته، وقال بصوت مقناظ: ابتعد عني ونح يدك عن رأسي، إذا لمستني مرة أخرى
ضربتك بهذه العصا، فلمس الشيخ رجليه وقال: إنك لن تمنعني من مسِّ رجلك،
فبهت ذلك الرجل وخجل ورقَّ قلبه الذي كان يبدو كأنه من حجر، وأطرق رأسه
خجلاً حين رأى هذا التواضع الذي لم يكن قد شهده من قبل.
ذهب الشيخ محمد إلياس مرة إلى قرية، وجعل يتكلم مع أحد سكانها حول الدعوة
إلى الله، فاغتاظ ذلك الرجل وبلغ به غضبه أن لطمه، وكان الشيخ نحيفاً
هزيلاً لم يستطع أن يتحمل هذه اللكمة، فجلس على الأرض، ولما اخذ بطرف ثوبه
وقال: إنك فعلت ما فعلت وأريد أن تستمع إليَّ، فندم ذلك الرجل على ما صنعه،
وألقى نفسه إلى قدميه، وقال: سامحني يا سيدي وإلا لا يغفر لي ربي.
وهكذا نجد كثيراً من الحوادث التي تدل على أسلوبه في الدعوة، ومنهجه في
اجتذاب صاحبه، وصدق لهجته، طول كدحه، وتوجع قلبه، وتلهف فؤاده، وإراقة
دموعه، وكثرة تواضعه، كا يشعر به كل من لقيه ويلهج لسانه بالشكر والدعاء
له.
وُجِّه إلى رجل كان يتجول في قرية سؤال: لماذا تقوم بهذه الجولة الدعوية؟
فأجاب عليه بغاية من البساطة والهدوء، والثقة والاعتزاز:
كنا نتسكع في ظلام كالح من الجهل والأمية، لا نعرف إلهنا ولا نعرف نبينا
فجزى الله عنا هذا الشيخ، هو الذي ساقنا إلى سواء السبيل، فنحن نريد الآن
أن نبلغ هذه الثروة التي أفاءها علينا إلى إخواننا الذين يعيشون حياة
الإلحاد والزندقة.
طبيعته المضطربة:
كان في لسان الشيخ محمد إلياس لكنة، وكان لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه
بوضوح، وبالإضافة إلى ذلك كان يستعمل كثيراً المصطلحات العلمية، والمعاني
الدقيقة، والكلمات الغريبة، وكان يصعب على أهل بلدة (( ميوات )) الذين
كانوا يجهلون هذه الكلمات والمصطلحات أن يدركوا معانيها، فاضطرب الشيخ لذلك
وحاول أن يختار أسلوباً آخر، ولكن لا يجد أحداً يفقه لكلامه، فيتضرع إلى
الله، ويعرف عن وحشته وبؤسه، وعجزه وإخفائه، ويتململ تململ السليم، ويتأوه
تأوه الحزين.
ولا يعرف أحد الشيخ معرفة صحيحة إلا من عاش معه، وشاهده في حياته الشخصية
والعامة، ولذلك فشهادة الزوجة خير شهادة على سلوك المرء وطبيعته، ومن هنا
نورد شهادة قريبة الشيخ محمد إلياس على طبيعته المضطربة وحرقته للأمة
الإسلامية، حيث قالت حين وجِّه إليها سؤال عن خلقه، وطبيعته:
شاهدته بعد زفافي لا يذوق من النوم إلا القليل، يسهر الليالي، ويتململ في
فراشه تململ السليم، فقلت له مرة: ما لك لا تستريح ولا تهجع؟ فأجاب: لا
أستطيع أن أخبرك بذلك، لأنك إذا عرفت ما يؤرقني لطار نومك أيضاً، وأنفق
الشيخ محمد إلياس ما كان في يده من مال، وكان في جسمه من قوة، وما كان في
قلبه من همة على أهل (( ميوات )) واستخدم كل ذلك في سبيل الدعوة إلى
الإسلام، واقتفى في ذلك أثر سيدنا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -، فلم
يترك في بيته شيئاً غير اسم ربه ونبيه، كتب في رسالة وجهها إلى بعض معارفه
من (( ميوات )):
إنني صرفت عليكم كل ما أملكه من همة وقوة، ولا أملك اليوم إلا نفسي، فعليكم أن تشاركوني في حمل أعباء الدعوة.
جاب الشيخ محمد إلياس بلدة (( ميوات )) من أقصاها إلى أدناها بقلبه الذي
يتوجع على الإنسانية البائسة المنكوبة التائهة الضالة، وأمسلك بيد كل رجل
لقيه، وطرق كل باب وقع على بصره، يطوي الليالي في أحيان كثيرة، وتجول في
أيام الصيف والشتاء، ولا تثنيه العواصف العاتية، ولا تلويه الرياح القارسة
عن همته وتقدمه، وإذا لم يجد إجابة ملبّية أصابه قلق يشكوه إلى زملائه
الذين كانوا التفوا حوله، وقبلوا دعوته، فكتب مرة في رسالة وجهها إليهم: ((
تأمل يا عيسى في هذا المجتمع الذي يسعى فيه كل فرد من أفراده إلى تحقيق
مآربه المادية، ولا يطالب فيه إلا رجل واحد بأن يتفرغ لوقت قصير للدين
والعمل للآخرة، فيلوي رأسه، أليس ذلك تقليل قيمة الآخرة ورفع قيمة
الدنيا)).
ثم شهد العالم بأن سكان (( ميوات )) نفضوا مما كانوا فيه، وتركوا أهلهم،
وهجروا راحتهم، وضحوا بحياتهم وأموالهم، وانقطعوا إلى الدعوة، وخرجوا في
سبيل الله، وأصبحت القرى التي كان لا يخرج منها رجل واحد ليوم واحد، يخرج
منها أعداد غفيرة في وقت واحد لمدة شهور وأعوام.
الرحلة الأخيرة للحج وانتشار الحركة:قام الشيخ محمد إلياس بالرحلة الأخيرة إلى الحجاز سنة 1356هـ للحج
والزيارة، وأدّى مناسك الحج، واشتغل بدعوته في السفينة ثم خلال إقامته
بالحجاز، ونالت دعوته القبول العام في هذه المرحلة الأخيرة له، وتعرف
الناطقون بالضاد لأول مرة على هذا المنهج للدعوة الذي اختاره الشيخ محمد
إلياس، وأعربوا عن تقديرهم لجهوده وأبدوا اهتمامهم بدعوته.
وبعد العودة من الحج أوقف الشيخ محمد إلياس كل ما كان يملكه من ذكاء وقوة
مواهب ومؤهلات على الدعوة إلى الإسلام، وصرف اهتمامه كل إلى إرسال بعثات
تتكون من سكان بلدة (( ميوات )) إلى المدن والقرى في ولايات مختلفة، وكان
بعض كبار رجال الأعمال في مدينة دلهي معجبين بشخصيته مولعين بحركته ودعوته،
ووكان لبعض المسنين منهم سابق معرفة بوالد الشيخ محمد إلياس وشقيقه، فكان
يختلفون إلى حي (( نظام الدين )) ويساعدون الشيخ محمد إلياس في القيام
بأعباء الدعوة، وكانوا يجتمعون كل ليلة من ليالي الجمعة في حي (( نظام
الدين )) ويجتمعون بعدد أكبر يوم الأربعاء الأخير من كل شهر في المسجد
الجامع دلهي، ويستمعون لما يلقي إليهم الشيخ محمد إلياس من دروس ومواعظ
تنفخ فيهم روح الإيمان والتضحية، والجهد والكفاح.
ووليّ الشيخ مقبول حسن إمارة كافة الجماعات، فتصاعدت نشاطات هذه الحركة
بجهده وسعيه، وكان للحافظ فخر الدين إسهام كبير في توسيع نطاقها، ولفت
أنظار الناس إليها، فقد كان يتوجه إليه وجهاء مدينة دلهي الجديدة، وحملة
الشهادات العالية، ورجال التعليم والتربية، ، وقادة الفكر، وأساتذة
الجامعات العصرية، وخاصة أساتذة الجامعة الملية الإسلامية، وكان على رأسهم
الدكتور ذاكر حسين رئيس الهند الأسبق، وكان الشيخ محمد إلياس ينتهز هذه
الفرصة الغالية، ويتحدث معهم بأسلوب مؤثر ترق له القلوب وتدمع له العيون.
وبالإضافة إلى هؤلاء المثقفين كان يحضر إليه عدد كبير من أساتذة المدارس
العربية الإسلامية المختلفة، وعلمائها وطلبتها، وكان في مقدمتهم أساتذة دار
العلوم التابعة لندوة العلماء، ومدرسة مظاهر العلوم، ودار العلوم ديوبند،
فيلتقون بالشيخ محمد إلياس، ويتحدثون معه، ويتعرفون على منهجه، ويقتنون من
ثمار دعوته، ويعودون إلى أوطانهم بشيء من لوعته وحرقة قلبه، وجدت ذلك في
سنة 1958م و 1959م عندما نشرت الصحف والمجلات بحوثاً ومقالات تناولت هذه
الحركة بالبحث والدراسة، وألقت الأضواء على نتائجها وأبعادها.
وكان الشيخ محمد إلياس يتمنى منذ إنشاء هذه الحركة أن ينضم إليها العلماء،
ويتولوا أمرها، ويهتموا بشؤونها، فلما رأى إقبال العلماء عليها، وعنايتهم
بها أعرب عن سروره وبهجته في مناسبات مختلفة، ووجه الشيخ محمد إلياس جماعة
تضم عدداً من العلماء المثقفين إلى بلدة (( مراد آباد ))، وقضت هذه الجماعة
ثلاثة أيام في هذه البلدة، تجولت خلالها في أزقتها، وسارت داعية في
شوارعها، وقابلت أهل التجارة والصناعة، وعرضت عليهم هذه الفكرة إلا أنها لم
تجد تجاوباً لا ئقاً في هذه الرحلة، وأصاب بعض العاملين فيها اليأس
والشعور بالخيبة، فبعث الشيخ محمد إلياس بجماعة أخرى إلى نفس البلدة فعادت
هذه الجماعة أيضاً خائبة كما عادت الأولى بدون أن تحرز أي نجاح في دعوتها
أو تكسب نصراً.
وكادت هذه الخيبة تحطم القلوب، وتفقد الآمال وتكسر الخواطر، فتضرعت إلى
الله بقلوب متكسرة، وابتهلت إلى إليه ابتهال العاجز الفقير، ثم توجهت إلى
تلك البلدة التي عادت منها خائبة في السابق وبذلت جهودها بمزيد من الإنابة
والخشوع، فمالت إليه النفوس هذه المرة، وتنافس الناس في حمل أعبائها، فكانت
مفاجأة وبشرى سارة لهم، وحافزاً إلى العمل، فارتفعت همهم، وانتشرت هذه
الدعوة بسرعة غريبة، ولم تنقض فترة طويلة إلا وصارت هذه البلدة مركزاً
كبيراً للدعوة الإسلامية.
جعل الناس يختلفون إلى الشيخ محمد إلياس كثيراً في آخر أيامه، وتولى أمرها
عدد من الناس الذين كانوا يُعرفون بكفاءتهم العلمية، وحنكتهم السياسية
وخبرتهم للشؤون الإدارية، وحققت تقدماً كبيراً بجهود هؤلاء العلماء
المخلصين ورزق لها العاملون المخلصون الذين كانوا يملكون مواهب عالية،
ومؤهلات فائقة وقدرات وكفاءات علمية.
يتبع >>>