الفقه الإسلامي : الوضوء للشيخ راتب النابلسى
الفقه الإسلامي : الوضوء الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم يا أكرم الأكرمين أغننا بالعلم، وزيِّنا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمِّلنا بالعافية، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وصلنا في الدرس الماضي في بحث الفقه إلى التيمم ، وتحدثنا عن تعريفه، وعن شروطه، ووصلنا إلى أركانه، وسننه.
التيمم له ركنان فقط: 1ـ مسح الوجه 2ـ ومسح اليدين فقط.
وأما السنن فسبعة:
1ـ التسمية في أوله، لا بد من أن تسمي في أول التيمم.
2ـ الترتيب، تبدأ بالوجه، وتثني باليدين.
3ـ الموالاة، تمسح الوجه، وتمسح بعده اليدين مباشرة، دون أن تمسح الوجه وتمضي إلى حاجة، ثم تعود فتمسح اليدين، وهذا معنى الموالاة.
أكرِّر: التسمية: بسم الله الرحمن الرحيم، والترتيب: مسحُ الوجه أولاً، واليدين ثانياً، والموالاة: متابعة مسح الوجه واليدين في وقت واحد.
4ـ وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب، 5ـ وإدبارهما.
تضع اليدين على التراب وتجعلهما تقبلان وتدبران.
6ـ ونفضُهما، إذا علقت بهما كمية من التراب كثيرة ينبغي أن تنفضهما.
7ـ تفريج ما بين الأصابع.
أكرِّر: إقبال اليدين، وإدبارهما، ونفضهما، وتفريج ما بين الأصابع.
وندب تأخير التيمم لمن يرجو الماء، بعثتَ إنسانًا ليأتي بالماء، وأنت في انتظاره، فيندب تأخير التيمم، طبعاً قبل خروج الوقت، فإذا خرج الوقت المستحب، ينبغي أن تتيمم وأن تصلي.
ويجب طلب الماء إلى مقدار أربعمئة خطوة، تقريباً نصف كيلومتر، إن ظن قربه مع الأمن وإلا فلا، فإذا كنت مثلاً في أثناء حرب داخل أرض عدو، فالأمن غير متوافر، فلو أن الماء على بُعد ثلاثمئة متر لا ينبغي أن تذهب، وإذا توافر الماء إلى قدر نصف كيلومتر مع وجود الأمن تذهب إليه، وإلا فلا.
ويجب طلبه ممن هو معه، واحد معه ماء فمرّت شاحنة عندها مستودع ماء، فإن كان في محل تشح به النفوس، أو غلب على ظنك أن أحداً لن يلبيك، فتيمَّمْ وصلِّ، لكن إذا كنتَ في أرض خيّرة وأناس طيبين، أو كنت في أرض يغلب على أهلها حبُّ الخير، فاطلب الماءَ من المارة، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه، كأنْ يقال لك: صفحة الماء بليرة، أما أن تكون بمائة ليرة، فهذا ليس ثمن مثله، فصار ذاك ابتزازًا لكن الصحيفة بليرة ثمن معقول، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه إن كان المالُ فاضلا عن نفقته، معه مال زائد عن حاجته فالسعر معقول، والمبلغ موجود وفائض، عندئذ لزمه الشراء.
ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض، فكلما كثرت الفرائض قلَّ سعر الماء، فيقل السعر للمرة الواحدة يقسمهم على عشرة فروض، أو على خمسة فروض، يجد أنّ الفرض الواحد تكاليفه قليلة.
وفي بعض المذاهب لا يصح التيمم قبل دخول الوقت، ولكن في المذهب الحنفي، يصح التيمم قبل دخول الوقت.
كذلك إن كان أكثر البدن أو نصفه جريحاً تيمَّم، ولو وجدَ الماء، فمثلاً وقع حادث، ومعظم البدن مضمد، أو فيه جروح، ورضوض، فما دام نصف البدن أو أغلبه مجروحًا فهذا يتيمم ولو وجد الماءَ.
أمّا إنْ كان أكثرُه صحيحاً غسَله ومسَح على القسم المضمد.
ولا يجمع بين الغسل والتيمم، فلا يجوز الجمع بينهما، فما دام يستطيع الغسل، والماء متوافر، فلا ينبغي أن يجمع مع الغسل التيممَ.
ماذا ينقض التيمم ؟ كلُّ ما ينقض الوضوء ينقض التيمم، ويضاف إليه شيء آخر وهو القدرة على استعمال الماء الكافي.
وبعد فهذه فقرة من باب: أرأيت لو أنه فعل كذا وكذا ، هؤلاء سمُّو في علم الفقه "أرائتيين"، أحد الصحابة الأجلاء عرضت عليه قضية نادرة، فقال رَضِي اللَّه عَنْه أَوَقَعَتْ ؟ قيل لا، قال: إن وقعت نفتي بها، توفيرًا للوقت، وهذه الحالة النادرة ؛ قال: رجل مقطوع اليدين والرجلين، وبقي منه الجذعُ، هذا ما حكمه ؟ قال: هذا يصلي من دون طهارة، ولا وضوء ولا تيمم عليه، فمِن أندر الحالات أن يعيش الإنسان جذعاً فقط، من غير يدين ولا رِجْلين، وعلى كلٍّ فنحن في صدد القضايا الواقعية، وهذا هو الصواب من غير تنطُّع، إذاً التيمم له ركنان وله سبعة سنن، أمّ الركنان فإنّي أعود لذكرهما مع إعادة موجزة للموضوع كله:
مسح الوجه، ومسح اليدين، فتُمسَح اليدُ ظاهرُها أولاً وباطنُها ثانياً، اليمين ثم الشمال، والوجه من منبت الشعر إلى أسفل الذقن، وعرضاً إلى شحمتي الأذنين، وركناه مسح اليدين والوجه، وسننه التسمية بسم الله الرحمن الرحيم، والترتيب، مسح الوجه ثم اليدين، والموالاة، الوجه واليدان في وقت واحد، وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب وإدبارهما، ونفضهما، وتفريج الأصابع، وتأخير التيمم لمن يرجو الماء، وطلب الماء إلى مقدار أربعمئة خطوة، إن ظن قربه مع الأمن، وإلا فلا، ويجب طلبه ممن هو معه مِن المارة إن كان في محل لا تشح به النفوس، أو يغلب على ظنه أن الناس لا يبخلون بالماء، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه، إن كان معه فاضلٌ عن نفقته، ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل، وصح تقديمه على الوقت، يعني يجوز التيمم قبل دخول الوقت، ولو كان أكثر البدن أو نصفه جريحاً تيمم، وإن كان أكثره صحيحاً غسله ومسح على القسم الجريح، ولا يجتمع غسل وتيمم، وينقضه ما ينقض الوضوء، ويضاف إلى النواقض ناقض آخر وهو القدرة على استعمال الماء الكافي، أما مقطوع اليدين والرجلين فإذا كان في وجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يعيد.
والآن إلى إحياء علوم الدين.
طبعاً قد يسأل سائل ما حكمة تنوع الموضوعات، تنوع الموضوعات يدفع السقم، فنتحدّث في الفقه عشر دقائق، على مدى الأشهر والسنوات فنتعلم كل شيء، لكن لو أمضينا الوقت كله بالفقه لثقل ذلك على النفس، والآن إلى صفات العلماء بالله تعالى، وهنا صفحة يجب أن اقرأها لكم وأشرحها.
من صفات العلماء بالله تعالى أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه.
فهناك علم الظاهر، رجلٌ وقف ليصلي فصلى صلاة صحيحة، وقف منتصبًا، وقرأ وفق أحكام التجويد، وركع مطمئناً، وسجد مطمئناً، فقد توافرتْ جميع الصفات الواردة في الصلاة الصحيحة، لكن قلبه ساهٍ، مشغول بالدنيا، كل خواطره تواردتْ عن الدنيا، وجميع المشكلات في الأسبوع تأتيه وهو في الصلاة، لماذا لا تزوره أخته، فما لها حق في عدم زيارته، وهنا انتهت الفاتحة، وقال: ولا الضالين، ثم تذكَّر أنها زارته من يومين ولم تجده، ثم قال: آمين، أهذه هذه الصلاة ؟ ولو أنه طبَّق الشروط تطبيقًا ظاهريًا فإنها صلاة، لكن هنا الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه يلفت النظر إلى أن علماء الآخرة ينبغي أن تكون عنايتهم منصبةً على تطهير القلب، والالتفات إلى الله عز وجل، وعلم الباطن.
يقول: إن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، شيء جميل، المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، أتحب أنْ تجرِّب فجرِّب ولا بأس، اعمل عملاً صالحًا يكلفك شيئًا ثمينًا، اخدم إنسانًا خدمة شاقة، امشِ معه عشر ساعات، لا تبتغي بها إلا وجه الله، زرْ مريضاً في أقصى المدينة، اركب أول حافلة ثم الأخرى لبُعدِ المسافة، وخذ له معك هدية، وحدثه عن الله وارجع، إنْ رأيتَ واحدًا بحاجة إلى مال، فاقتطع جزءًا من مصروفك وادفعه له، اعمل عملاً صالحًا حقيقيًا، فستجد نفسك إذا قرأت القرآن تنهمر الدموعُ انهمارًا، وتفهم شيئاً لم تكن تفهمه من قبل، هاتان الكلمتان دقيقتان، جاهِدْ تشاهِدْ، شيء عجيب أن العلم بالله تعالى ثمنه ليس من جنسه، بل ثمنه بعيد عن جنسه، فغضُّ البصر، وإنفاق المال، وخدمة الناس، والتودُّد إليهم، وتقديم خدمات قيمة لهم، والمساعدة، والنصيحة، وبذل الوقت رخيصًا، وبذل الجهد سخياً، وتقرأ القرآن فتنهمر الدموع، والفكر مفتوح، والعقل متفتح، تفهم عن الله أشياء لم تقرأها في تفسير، هذا معنى قول الإمام الغزالي:
((جاهد تشاهد))
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾
( سورة العنكبوت: 69 )
هذه المعية لمن ؟ للمحسنين، معية الله بتجلِّيه على قلبك، فهذه المشاهدات القلبية التي اتصف بها الصوفيون لا تتأتَّى إلا بالمجاهدة، بالِغْ في غضِّ البصر، وبالغ في العمل الصالح، ولا تنتظر أن يأتيك الناس ويطلبون منك عملاً صالحاً، بل أنت ابحث عن عمل صالح، وكل واحد منا لو بحث لوَجَد في انتظاره آلاف الأعمال الصالحة، ألا يستطيع أن يزور مريضاً ؟ ألا يستطيع أن يقدم مساعدة ؟ ألا يستطيع أن يفعل معروفاً ؟ ألا يستطيع أن يخدم إنساناً ؟ ألا يستطيع أن يمشي في حاجة أخيه ؟ الأعمال الصالحة كثيرة جداً، فلو أنك تتبعتها، وبحثت عنها لوجدتها، فإذا فعلتها سعدت برضى الله عز وجل، وإذا أردتم ملخص الملخص دون الغوص في متاهات العلوم الدينية، ودون تضييع الوقت الثمين في علوم لا تنفع ولا تضر، إذا أردتم أن تكونوا على جوهر حقيقة الدين فعليكم بالمجاهدة، فإذا جاهدتم شاهدتُم، هكذا يقول الإمام الغزالي.
فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، ودقائق علوم القلوب تتفجر بها ينابيع الحكمة من القلب، وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك.
كتب فقط ؟ علوم عصرية تعارف الناسُ عليها، هذا درس حقوق، عنده أصول القانون، تاريخ القانون، قانون المقارن، الأحوال الشخصية الفرائض، علم المواريث، أصول المحاكمات، درجات المحاكم، أنواع الأحكام، آداب القضاة، فهذه علوم عصرية، ثم دارس للفيزياء، درس الفيزياء، والكيمياء، والحرارة، والمغناطيس، والضوء، والكهرباء والطاقة، والطاقة الذرية، والكيمياء النووية، ثم دارس للرياضيات، درس الرياضيات الحديثة، والرياضيات التقليدية، والهندسة الفراغية، والهندسة المستوية، ثم اللغة العربية، فهذا درس أصول اللغة، وعلوم اللغة، وتاريخ اللغة، والنحو والصرف، هذه كلها فروع الجامعة، وكل فرع له مجموعة مواد، وكتب تقرؤها، وتفهمها، وتحفظها، وتلخصها، وتذاكر فيها، تأخذ درجة مقبول، أو جيد، أو امتياز، فتنجح، وتأخذ شهادة، هذه أشياء كلها مبذولة للناس، أما الهدى فغيرُ هذا الشيء، فإذا نزل الدينُ إلى هذا المستوى، وصار كتبًا تقرأ، وتُحفظ، وتلخَّص، وتُفهم، ويتكلم الناسُ بها في المجتمعات، هذا مثقف ثقافة تاريخية، وذاك مثقف ثقافة حقوقية، وآخر مثقف ثقافة إسلامية، وهذا دراسته بالفلك، وذاك دراسته بالرياضيات، وآخر دراسته بعلوم التجارة، ويحمل بكالوريوس تجارة، أو بكالوريوس بالمحاسبة، هذا بالإعلام، وذاك بالصحافة، وغيرُه في الأدب، وآخر في اللغة الأجنبية، وهذا بالتاريخ، وهذا في الجغرافية، وهذا بالفلسفة، وهذا بالشريعة، نزلنا الدين العظيم إلى مستوى العلوم العصرية، لكل مؤلفات، وكتب، وفهارس، وتواريخ، ومقررات، وامتحانات، الفصل أول، والفصل الثاني، والنتيجة جيد أو مقبول أو امتياز، وهذا مرقن قيده، وآخر مفصول، هذا يحمل شهادة في الشريعة، أما الهدى فشيء آخر، والهدى انضباط، وغض بصر، وخوف من الله عز وجل، فإنّ رأس الحكمة مخافة الله، فلو قطعتَ رأس الثعبان مثلاً لمات، فلو ألغيتَ خوف الله هل بقيت حكمة ؟ لا تبقى حكمة، إذًا هذا العلم بالله تعالى، وثمنه المجاهدة، ولتبقَ الآية في ذهنك:
((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين))
هذه آية يجب أن تحتلّ بؤرةً ذهنك دائماً.
قال العلماء: أما الكتب، والتعليم من خلالها فلا تفي بذلك، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تنفتح بالمجاهدة، والمراقبة، ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة.
قال لي صديق: كنتُ راكبًا سيارتي قادمًا من الزبداني الساعة الثانية عشرة ليلاً، وجدتُ امرأة مع رجل وتحمل وعلى يديها طفل، وشعرت أنهما بحاجة لمساعدة فوقفت، صعد الزوج وزوجته ومعهم طفل حرارته مرتفعة 40 ـ 41 درجة، ويظهر أنهم غرباء، كان ذلك في أثناء أحداث لبنان، فأخذتهم إلى طبيب، ومن الطبيب للصيدلي، ومشفى من أجل ضرب الإبرة، وقال: أربع ساعات أمضيتها في خدمة هذه الأسرة، فوصل الساعة الرابعة إلى البيت مرهقًا، ثم قال: أمضيت أسبوعين في سرور عارم، وكأنني في الجنة، ولما أُصلي أشعر كأنني محلِّق في جوِّ السماء، ولما أقرأ القرآن أشعر كأنني أفهم القرآن كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، وهذا شيء ثابت حقًّا، والتجربة أكبر برهان، فابحث عن عمل صالح وافعله قربة إلى الله عز وجل، ثم انظر كيف أن الله عز وجل يفتح قلبك لمعرفته، ويتجلى عليك بالسكينة، والطمأنينة وتحس أنك إنسان آخر، هذا ملخص الكلام، واسمعوا هذه الكلمة.
قال: فكم من متعلم طال تعليمه، ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة.
نسأله: ما تفسير هذه الآية، يقول: واللهِ سأراجع كتب التفسير ، طيب وهذه الآية، يقول: والله نسيتُ تفسيرها، وسأرى ماذا قال عنها العلماء، رَجَعَ بعد حين وقال: واللهِ قال البيضاوي مثلاً كذا وكذا، حسنًا وهذه الآية التي في زيد، قال: واللهِ إنّ سيدنا رسول الله شاهد السيدة زينب في وضع متبذِّل فأعجبه حسنُها، قال: سبحان الله، فسمعتْه، فحدثت زيداً فكرِهها، فنوى طلاقها، هكذا قالوا عن رسول الله في التفسير، أعوذ بالله، أهذه أخلاق رسول الله، فإذا كان الشخصُ لا معرفة له برسول الله، وقرأ في التفسير كلامًا مغلوطًا، أفيصدِّقه ؟ فليحذرِ المسلم المؤمن مِن التقوُّل على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فهو وإياهم قمّة الهرم البشري.
عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ))
[ أخرجه مسلم ]
أنتَ لك عقلٌ، ولا بد لك من موقف، فلو قال المفسر: إنّ القصة هذه هكذا رواها الطبري، أَأُعفِي من الإثم، لا، كيف قبلتها ؟ وكيف صدقتها.
قال العلماء: وكم من مقتصر على المهم في التعلم، ومتوافر على العمل ومراقبة القلب، فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار به عقول ذوي الألباب.
فإذا تعلم الإنسان الأساسيات، والتفتَ إلى قلبه، ولعمله الصالح ومجاهدة نفسه وهواه، فتح اللهُ عز وجل على قلبه من معاني كتاب الله ما تحار به الألباب، وهذا الشيء ليس مبذولاً لواحد فقط، بل هو لكل واحد منكم، وهذه عظمة الإسلام، لا أحد أحسن من أحد، فالتفاضل في درجات الإيمان فقط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وكل من سار على هذا الدرب وصل إليه وإلى هدفه، وأعظم الأهداف مبذولةٌ لكل مسلم،ليس في الإسلام طبقة رجال الدين، وطبقة بعدهم ثانية، وطبقة وسطى، لا شيء مِن هذا، بل كل مسلم مفتوح أمامه الباب ليصل إلى أعلى مستوى في الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرًثَهُ الله عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))
الحديث الأخير في هذا الموضوع، قال الإمام علي رَضِي اللَّه عَنْه:
(( القلوب أوعية، وخيرها أوعاها للخير، إما أكثرها سعةً، أو أكثرها وعياً، وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة، عالم رباني))
يعني يستمد علمه من الله عز وجل.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾
( سورة البقرة: 282 )
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾
( سورة التغابن: 11 )
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)﴾
( سورة الأنبياء: 79 )
إلا أن يؤت فهماً في كتاب الله، هذا نص قرآني ﴿ففهمناها سليمان﴾ وهذه آية ثانية " ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾ وهذه آية أخرى ﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ هذه آيات مِن القرآن الكريم تؤكد أن الله سبحانه وتعالى إذا رأى من عبده صِدْقاً في طلبه فتح قلبه لمعرفته.
لذلك قال أحد العلماء الكبار وقد دخل إلى مسجد فرأى فتًى يحدث الناس، والناس مقبلون عليه، فرأى إقبال الناس على هذا الفتى مما يحط من قدره هو، فهو العالم الكبير، الذائع الصيت، العالم العلامة الحبر الفهامة، وحيد عصره، فريد زمانه، رأى فتى صغيرًا، لا يعرفه أحد، والناس مقبلون عليه إقبالاً شديداً، فأراد أن ينتقص من شأنه، فقال: واللهِ يا فتى ما سمعنا بهذا الكلام، من أين جئت به ؟ فقال الفتى على مسمع الناس جميعًا: يا شيخ أتعلمت كل العلم ؟ قال: لا، فقال الفتى: أتعلَّمتَ جله ؟ قال: لا، فقال الفتى: أتعلمتَ نصفه ؟ فخجل، وقال: نعم، قال له: هذا من النصف الذي لم تتعلمه إذًا، فقال هذا العالِم: والله ما ندمت على قول قلته في حياتي كندمي على قولي لهذا الشاب: يا فتى ما سمعت بهذا الكلام.
والإنسان حين يعرف أن العلم بحرٌ ما له نهاية، يتواضع، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل ((عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم، إياك أن تكون منهم))، فالناسُ ثلاثة أصناف الناس ؛ عالم رباني، ومتعالم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم، العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، العلم دين يدان به، العلم دين، تكتسب به الطاعة في الحياة، وتكتسب به جليل الأحدوثة بعد الممات، العلم حاكم، والمال محكوم، ومنفعة المال تزول بزواله، فإذا فلَّس إنسان فجأة وأُخِذتْ أمواله منه فقد زالت كل منافع المال، أما منافع العلم فلا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يسلبها منك، مات خزان المال وهم أحياء، وهم في قمة حياتهم، وأوج شبابهم ميتون كما قال الله تعالى:
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
( سورة النحل: 21 )
همُّهم بطونهم، وقبلتهم نساؤهم، والدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، يغضبون لزوالها، ويرقصون طربًا لمجيئها، وهم في غفلة عن الموت، يأتيهم بغتة فيصعقهم، مات خُزان المال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر.
ثم قال الإمام علي كرم الله وجه: إن ها هنا علما جمًّا، آه لو وجدت من حمله، بل أجد طالب غير مأمون، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، انظر إلى هذا الصنف الخطير، يريد الدنيا، يريد الطعام والشراب، والمال، والوجاهة، عن طريق الدين، ويستطيل بنعم الله على أوليائِهِ، ويستظهر بحججه على خلقه، هذا صنف، صنف أراد الدنيا عن طريق الدين.
الصنف الثالث: أو مناقض لأهل الحق، لكن يُزرع الشك في قلبه لأول عارض، مثلاً هو مع هذا العالم خمس سنوات، ثم قرأ مقالة في مجلة فيها: " أنهم عرفوا جنس الجنين ذكر أم أنثى "، فالمعنى عنده أنّ القرآن ليس صحيحًا ولا صوابًا، وأنّ الدينَ خَلْط، فهذا الإنسان ضعيف التفكير، فأولُ شخصٍ ذكيٌّ، لكنه استخدم ذكاءه لاغتنام الدنيا عن طريق الدين، وهذا غير مأمون، أما الثاني فليس عنده هذا الخبث، لكنه محدود التفكير، يشك في الأمور بسرعة، هذا النوع الثاني لا بصيرة له، وهو لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، والثالث: أو موهوماً باللذات، سلس القياد إلى الشهوات.
الصنف الرابع: مغرماً بجمع الأموال والادخار، فهؤلاء جميعاً أقربُ شبهٍ بهم الأنعامُ السائمةُ، اللهم هكذا يموت العلم، إذا مات حاملوه، ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجَّةٍ، إما ظاهراً مكشوفاً، أو مستتراً مقهوراً، هذا إما مشهورٌ، وإمّا مغمورٌ، لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته، وكم هؤلاء الصادقون ؟ وأين أولئك ؟ هم الأقلون عدداً، والأعظمون قدراً، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يحفظ الله بهم حججه، حتى يودعوها مَنْ وراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، يعني رضوا ببيت صغير، بفراش غير وثير، بطعام خشن، بثياب قليلة، بأدوات متواضعة.
مال، وسيارة فخمة، وبيت فخم، فقط، هذه كل أهدافنا، أما أنْ يدرك أنّ هناك في آخرة،راجع إلى إله عظيم، أسماؤه حسنى، خالق الكون العظيم، هذه أشياء لا تعنينا أبداً، سبحان الله
((أموات غير أحياء))
لكنْ هناك مَن صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه، وأمناؤه، وعماله في أرضه، والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال: وا شوقاه إلى رؤيتهم.
لا تخلو الأرض من صادقين، معهم الحجة، مخلصون في دعوتهم إلى الله عز وجل، مترفعون عن الدنيا، صغرت أم كبرت.
وبعد فإلى بعض الأحاديث الشريفة:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ))
[ أخرجه ابن ماجه ]
هذا مبدأ عام، فالإنسان يأتي ببضاعة يبيعها بسعر معتدل، ويربح منها، ثم يأتي بغيرها، فهذا مرزوق، هذا الإنسان ماذا يفعل ؟ يخفف عن المسلمين أعباء الحياة، ويسهم في خفض الأسعار، يجلب البضاعة ويبيعها، ويجلب غيرها ويبيعها، لماذا باعها سريعاً ؟ لأنه ربح فيها ربحًا معقولاً، وسعره معقول، بضاعة جيدة، تهافت الناس عليها فاشتروها، هذا اسمه جالب، وهذا الجالب مرزوق، فأحد كبار الصحابة، وربما كان أغنى الصحابة سئل: كيف حصَّلتَ هذا المال؟ فقال: لم أبِعْ دَيْناً، ولم أستقلَّ ربحاً، فمهما ربحتْ الحاجةُ يبيعها، لكنّ التاجر الآن يصفن، يريد أنْ يحل مشاكله بالبضاعة هذه، فيخطِّط ليبيعها بربح فاحش، فتُحَلّ فيه مشاكله كلها، فالذي يجري أنه عندما رفع السعر قلَّ الشراء، وحدَث تضخم نقدي، فصار الناسُ طبقة غنية، وطبقة فقيرة، ونشأت مشاكل، ناس من دون دخل، فبحثوا عن أساليب غير مشروعة للدخل، كل هذه الأمراض، ربما سببها ارتفاع الأسعار، هذا الجالب الذي يشتري ويبيع، ويشتري ويبيع، يسهم في خفض الأسعار، ويسهم في خفض مستوى المعيشة، وفي توفير الحاجات للناس، ويسهم في الرخاء الاجتماعي، طبعاً على قدر إمكاناته، وله نيته دائماً، في الإسلام عندنا قاعدة
((فاعل الخير خيرٌ منه))
أي الفاعلُ للخير خيرٌ من الخير، وهذه النفس التي أرادت الخير، والخير مهما كان له حجم فهناك أعظم منه، فاعل الخير خيرٌ من الخير، فأعظم من الخير أن تفعل الخير، هذه النفس الراقية التي تحب الخير للناس، يقلقها شقاُء الناس، هناك أشخاص إذا سَكَنَ أحدُهم في بيت فخم، فليَكُنْ من بعده الطوفان، بينما تجد شخصًا يتألم لوجود هذه الأزمة، ويتألم آخرُ لأن بعض الناس باحتكار البيوت يؤخِّرون الزواج، علمًا بأنّه عندنا فتيات كثيرات في سن الزواج، وهذا الزواج معطل بسبب عدم وجود بيت، وبعض الأشخاص يتهم أسرته لبساطتها وقناعتها، وإنّ الله عز وجل زرع في قلب كل أبٍ وكل أمٍّ عطفًا على الأولاد، وهذا من دون جهد، وهذه فطرة الله، حتى المرأة الكافرة الملحدة تخشى على أولادها، لكن النبي الكريم أثنى على من كان في قلبه رحمة عامة للناس، هذه الرحمة العامة كسبية، تكسبها بالصلاة، فلو كانتْ أمورك الذاتية محلولة، لما كنتَ مرتاحًا حتى تزولَ مشكلات الناس، فالجالب مرزوق، والمحتكر ملعون، لأنه لا يهمه إنْ حُرِم الناسُ من هذه المادة، وارتفعت أسعارها إلى درجة أصبحت قلّةٌ قليلة من الناس يشترونها، فحرم منها الجميع، والأطفال لا يدركون هذه الناحية، فيشتهون و يلحُّون على الآباء الذين يتألَّمون لعجزهم عن الشراء، والبائع لا يهمه الأمر، وكلُّ همِّه الربح، فيرفع سعر البضاعة، وإذا لم يحقق ربحًا فاحشًا فلنْ يبيعها، إذْ ليس لديه رحمة.
واللهِ ذات مرة حدّثني شخص بقصة دمعت لها عيني، مضمونها: طفل صغير وقف عند بائع فول، وقال له: أريد صحن فول، معه ربع ليرة، والصحن ثمنُه ليرتان ونصف، قال له: ادخُلْ وتفضل، ووضع له صحنًا عاديًا، بالبندورة والزيت والحمض، كما وضع له مقبِّلات، فقال شخصٌ جالسٌ: ما هذا ؟ كلُّه بربع ليرة، قال له صاحبُ المحل: طفلٌ اشتهى أنْ يأكل فولاً، أَأَدَعُهُ من دون فول ؟! أَكُلُّ الربح ماديٌّ، هنا نقطة الخلاف، الناس يقيسون الربح فقط بالمال، أَكُلُّ الربح مال، هناك تجليات تتنزل على قلب الإنسان إذا فعل خيراً لا يعلمها إلا الله.
سائق سيارة أجرة وقف لإنسان مقطوع، ليس معه إلاّ مبلغ يسير، فأخذه ولم يدعْه مقطوعًا، أَكُلُّ الربح مال ؟ لا، ليس كل الربح مالاً، فبعض الربح سكينة في القلب، يستحقها صاحب المعروف، لذلك فعلى الإنسان ألاّ يضنَّ بمعروفه على أحد، قال له: ادخلْ وكُلْ فولاً، قال له: اشتهى أن يأكل فولاً، أفأدَعُه من دون فول، وأخذ منه ربع ليرة، وأشعَرَ الولدَ أنه دفع ثمن الفول، وشعَر صاحبُ المحلِّ أنّه أخذ ثمن الفول، فالجالب مرزوق، والمحتكر ملعون.
قصة قصيرة عن عبد الله بن أم مكتوم:
لا شك أنكم جميعاً تعرفون أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوتب به، فكلما رآه يقول: أهلا بمن عاتبني به ربي.
قال: لما ضيَّقتْ قريش على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا معه واشتد أذاها لهم، أِذن اللهُ للمسلمين بالهجرة، فكان عبد الله ابن أم مكتوم أسرَع القوم مفارقةً لوطنه، وفراراً بدينه، فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدما المدينة من أصحاب رسول الله.
عبد الله بن أم مكتوم فاقد البصر، حكمة ربنا أن الله سبحانه وتعالى جعل صحابيًّا جليلاً عظيم الشأن فاقِدَ البصر، لماذا ؟ ليؤكد لنا أن طريق الجنة مفتوح لكل الناس، حتى من فقدوا أبصارهم، وقد يبلغون أعلى المراتب، وما أنْ بلغ عبد الله يثربَ حتى طفِق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس، ويقرئونهم القرآن ويفقهانهم في دين الله، لقد كان نشيطًا، ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم، وبلال بن رباح مؤذنين، سيدنا بلال، وعبد الله بن أم مكتوم صارا للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذنين، يخضعان لكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات، ويدعوان الناس إلى خير العمل، ويحضانهم على الفلاح، فعَمَلُ المؤذن عملٌ عظيم، حتى إن بعضهم قال في قوله تبارك و تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
( سورة فصلت: 33 )
إنَّ الآية تعني الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله إلى تمام الأذان، فهذه دعوة إلى الله، فكان بلال يؤذن، وابن أم مكتوم يقيم الصلاة، وربما أذن ابن أم مكتوم وأقام بلال الصلاة، وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما، ويمسكون عند آذان الآخر، فصار أذانٌ قبل الفجر، وهو لتذكير الناس بوقت السحور، وأذان للإمساك، وكان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه، وقد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة، فجعله أميرًا عليها في غيبته، أكثر مِن مرّةٍ، كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة، وفي أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه من آيات القرآن ما يرفع شأن المجاهدين، ويفضلهم على القاعدين، لينشط المجاهد إلى الجهاد، ويأنف القاعد من القعود، فأثَّرَ ذلك في نفس ابن أم مكتوم، إذْ لا يقوى على الجهاد، والآيات كلها تحضُّ على الجهاد، وتغضّ من شأن القاعدين المتخلفين، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، ثم سأل الله بقلب خاشع، أن ينزل قرآنًا في شأنه، وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد، وجعل يدعو في ضراعة:" اللهم أنزل عذري، اللهم أنزل عذري "، فنزل القرآن بآيات تتحدث عن أناس يحبون الجهاد ولا يقوون عليه.
فحدّثَ زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله، فقال: كنت إلى جنب النبي عليه الصلاة والسلام فغشيَتْهُ السكينة، وثقل رأسه، ثم سُرِّيَ عنه فقال: اكتُبْ يا زيد:
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة النساء: 95 )
لا يستوون، فالقاعد مرتاح مسترخٍ، لا يريد أن يعمل، فلا يستوي هذا مع المجاهد، فقام ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد، قال سيدنا زيد: فما قضى كلامه، حتى غشيتْ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكينةُ، ثم سُرّي عنه فقال: اكتب يا زيد:
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
قال هذه كتبتها، قال اكتب:
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾
إلا إذا كان هذا من أصحاب العاهات، فهو مستثنى من هذه الآية، ومن هذه القاعدة، فنزل الاستثناء الذي تمنَّاه ابن أم مكتوم، وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد، فقد أَبَتْ نفسُه الطموحُ أن يقعد مع القاعدين، وعقد العزم على الجهاد في سيبل الله، ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور، وغريب حقًّا كيف سيجاهد وهو لا يرى بعينه، اتخذ لنفسه وظيفة، فكان يقول أقيموني بين الصفين، وحمِّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار، لقد قَبِلَ أنْ يمتطيَ ظهرَ فرسٍ، ويحمل راية الجهاد دون أن يرى، وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقَد عمر بن الخطاب العزمَ على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة، تزيل دولتهم، وتزيل ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيش المسلمين، فكتب إلى عماله يقول:
لا تدعوا أحدًا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا وجّهتمُوه إليَّ والعَجَلَ العَجَلَ، وطفقت جموع المسلمين تلبِّي نداء الفاروق، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب، وكان في جملة هؤلاء المجاهدين مكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم، فأمَّر الفاروقُ على الجيش الكبير سعدَ بن أبي وقاص، وأوصاه وودعه، ولما بلغ الجيش القادسية برز عبد الله بن أم مكتوم لابسًا درعه، مستكملاً عدَّته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين، والحفاظ عليها، أو الموت دونها، والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة، واحترب الفريقان حربًا لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، حتى انجلَى اليومُ الثالث عن نصر مؤزَّر للمسلمين، فزالت دولة من أعظم الدول، وزال عرش من أعرق العروش، ورُفِعتْ راية التوحيد في أرض الوثنية، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء، وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم، استُشهِد في معركة القادسية وهو كفيف البصر.
فهذه القص سُقْتُها لكم، ليَعلم القاصي والداني أنّه ليس مِن عقبة تقف أمام المسلم، حتى لو فَقَدَ بصره، ومع ذلك فباب الجنة مفتوح، فإنْ كان بالمسلم ضعفٌ في جسمه، أو أحد أعضائه، كأنْ يكون لا يرى بعينيه جيداً، أو أنّ ماله قليل، أو نحو ذلك، فباب الله عز وجل مفتوح على مصراعيه، وكلما سِرتَ في طريق الله عز وجل ازددتَ حبًّا وشوقا واندفاعا ومجاهدة.
الفقه الإسلامي : الوضوء