وقفة اعتبار في نهاية العام ها نحن نودع عاماً كاملاً من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيراً، وكم من حوادث عظام مرت بنا ولكن أين المعتبرون المبصرون، وأين الناظرون إلى قول النبي
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) [أخرجه البخاري].
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.
فانظر أيها الحبيب في صحائف أيامك التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، وأين مشت هذه القدم، وماذا بطشت هذه اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وأن تحاسبها، يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة.
سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرّت: فسُئل من هذا؟
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله، قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سرعان ما ينقضي. قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله بمنكبي فقال
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [ أخرجه البخاري]، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة:
إن مضي الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى وتاب إلى الله عز وجل، وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير، لأنه يذكر دائماً قول نبيه صلي الله عليه وسلم : (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ، وهو يلهج دائما بدعاء النبي : (اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر) [أخرجه مسلم].
بكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له لم تبكِ، قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار ثم أجهش بالبكاء وهو يردد: من يصلي لك يا يزيد؟ من يصوم لك؟ من يتوب عنك من الذنوب؟
وقفة مع يوم الحساب وأهواله :ــالناس يعيشون في الدنيا وينسون يوما لا بد منه هذا اليوم لو عشناه بقلوبنا لحلت كل مشاكلنا وما رأينا مظلوما علي وجه الأرض ،يوم أن يفصل الله عز وجل بين الخلائق ويعطي لكل ذي حق حقه ،هذا اليوم هو يوم الحساب .
قال تعالي (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ،اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب )[غافر:16].
يوم الحساب يوم جليل خطبه، عظيم خطره، بل هو اليوم الذي ليس قبله مثله ولا بعده مثله، والكل ظاهر ومكشوف فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا رتوش.
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا المالك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار).
يوم عبوس قمطرير شره……. وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنبُ يخاف مصيره…… كيف المصرُ على الذنوبِ دهورُقال اللهُ عز وجل ( فكيفَ تتقونَ إن كفرتم يوماً يجعلُ الولدانَ شيبا) .
وذلك هو يوم الحساب ويوم الجزاء.