اسرار الصيام ومقاصده

اسرار الصيام ومقاصدُهُ 


رمضان يربّينا على تحقيق العبودية التامة والتوحيد الخالص؛ فما كان لله دام واتّصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل: 
قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله من ريح المسك». رواه البخاري: ١٩٠٤.
((أسرار الصّيام ومقاصده٢))
من أعظم المقاصد في رمضان وصيامه: الوحدة؛ فالقرآن الكريم كثيرًا ما يربط بين العبادة وتقوى الله تعالى ووحدة الأمة، يقول سبحانه: ((وأنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاعبدونِ)) ويقول أيضًا: ((وأنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاتّقونِ)) فالله تعالى يريد من الأمة أن تعبده وتتّقيه موحّدةً متماسكةً متراصّةً، وهذا ما نلحظه كذلك في النصوص المتعلقة بعبادة الصوم: ابتداءً برؤيةِ هلال رمضان والتثبّت بدخول الشّهر وانتهاءً باكتمال الشهر ورؤية هلال شوّال، فنجد أنّ النصوص قد وردت بصيغة الجمع لا المفرد؛ دلالةً على الأمّة الواحدة، ففي الحديث الصّحيح يقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُبِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» أخرجه البخاري (١٩٠٩)، ومسلم (١٠٨١).
ولو تأمّلنا كلمات هذا الحديث نجدها قد وردت بصيغة الجمع: ((صوموا)) باتّصال الفعل بواو الجماعة، ((وأفطروا)) باتّصال الفعل بواو الجماعة أيضًا، ((فإن غُبّي عليكم)) باتصال حرف الجر على بضمير الكاف والميم الدال على الجماعة أيضًا، ((فأكملوا)) باتّصال الفعل بواو الجماعة أيضًا، وما ذلك كله إلا للتّأكيد على الجماعة والأمة الواحدة!!
كما أنّ أوقات الإمساك والفَطور تتعلّقان بوقتٍ واحد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ تربيةً للأمة على روح الوحدة والجماعة؛ لتنطلق الأمة بعدها موحّدةً متماسكة من محاريب العبادة إلى ميادين العمل والتنمية والتطوير والبناء والجهاد والعلاقات الدولية تجمعها العقيدة الواحدة والعبادة الواحدة والدين الواحد والرب الواحد والتاريخ الواحد والكتاب الواحد والقضايا المصيرية الواحدة؛ لأنّه لا يمكن لأمة أرادها ربها موحدة أن تُمكّن وتنتصر وتنجح في مهمّتها وتحقق غايتها وهي ممزقة مشتّتة!!
فالأمة الإسلامية  الواحدة الموحَّدة والموحِّدة قادرة على القيام بالمهمّة التي كلّفها وشرّفها الله بها في تبليغ دينه سبحانه والقيام على حماية شعائره وشرائعه!!
والحمد لله كم عمّت الفرحة في رمضان هذا العام حينما صامت الأمة كلها تقريبًا في يوم واحد ولم تبالِ بالحدود المصطنعة والناجمة عن سايكس بيكو؛ لعل ذلك يكون بداية خير وانطلاقة وتذكرة بأن وجود الأمة وقوتها في وحدتها!!
نسأل الله تعالى أن يوحّد الأمة لتحرير المقدسات وتطهيرها من دنس المحتلين ولتبليغ هذا الدين إلى العالمين.
((أسرارُ الصّيامِ ومقاصدُهُ ٣))
  كلّ عبادةٍ شعائريّةٍ في الإسلام لا تثمرُ استقامةً تعامليّةً في سلوك الإنسان فمعنى ذلك أنّ أداءنا للعبادة فيه خللٌ: إمّا في الشّكل (المظهر)، وإمّا في المضمون (الجوهر). 
وعبادة الصّوم من أجلّ العبادات الّتي تنعكس على سلوك الإنسان؛ فالله غنيٌّ عن جوعتنا وعطشنا، ولكن نحن من نحتاج إلى هذه العبادة؛ لكي نربّيَ أنفسَنا وفقَ مراد الله تعالى ووفق الحكمة والسرّ والمقصد الذي تتضمّنه عبادة الصّيام!!
ولعلّ من أبرز هذه المقاصد والأسرار هي التقوى: ((يا أيّها الّذين آمنوا كُتب عليكم الصّيامُ كما كُتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون)) والتقوى ليست قشعريرة في الجسم، ولا ارتجافة في القلب، وليست دفقة دمعٍ تنفجر في العيون، إنّما التقوى علاقة بين الحبيب والمحبوب، وأسرار بين العبد وسيّده، التقوى تكمن في اجتناب الحرام، والامتثال لكلّ ما أمر الله تعالى؛ ولذا عرّف العلماء التقوى بأنّها ((أنْ يراك الله حيث أمرَك، وأنْ يفتقدك حيث نهاك))
يقول ابن المعتزّ:
  دعِ الذُنوبَ صَغيرَها
وَكَبيرَها ذاكَ التّقى


واصنَعْ كماشٍ فوقَ أر
ضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى


لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً
إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى


قال تعالى: ((إنّ الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون)) وفي قراءة ((طيف)) أي: مجرد الخاطرة وحديث النفس بالمعصية، فالتّقيّ الذي ربّاهُ الصّيام هو الّذي يتحسّس من كلّ ما يُغضب الله تعالى، وممّا يُروى: أنّ عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب -رضي الله عنهما- عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمّرتُ واجتهدتُ. قال: فذلك التقوى!!
وقد قال ابن كثير رحمه الله: وأصل التقوى التوقي مما يكره، لأن أصلها وقى من الوقاية. فالتقي هو الذي بينه وبين المعصية حاجز ووقاية؛ لأن نفسه لا تتقبّل الحرام ولا تألفه!! هكذا يربّينا الله تعالى بالصّيام، أمّا إذا صمنا ونحن لا نتورّع عن الحرام بكل أشكاله فمعنى ذلك أن عبادتنا فيها خلل وخلل كبير!!
بذلك تستقيم علاقتنا بالله تعالى فتنعكس صورة المسلم الرباني الذي رباه الله تعالى بالعبادات فأثمرت سلوكًا مستقيمًا سويًا سليمًا، فنتوافق وتتناغم عباداتنا الشعائرية وعباداتنا التعاملية!!
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وجعلنا من المتقين الله حق تقاته إنه سميع عليم.


فائق عويّد الكبيسيّ