الرضا: نجاة وفلاح
أحمد عماري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أحبتي الكرام، لقد طُبِعت الدنيا على الأكدار والمشاقِّ، والمِحن والبلايا، والعوارض والأهوال، والمرء مُتقلِّب في زمانه بين مِحن ومنح، وآلام وسرور، وأحزان وأفراح، وعطاء ومنع، وقوة وضعف، وفقر وغنى، ومرض وعافية... وأمام هذه الظروف المتقلبة، والأحوال المتغيرة، نحتاج إلى نفوسٍ راضية؛ راضية عن الله، وراضية بقضاء الله، وهذا هو موضوع لقائنا اليوم، ضمن سلسلة: "فقه البلاء في زمن الوباء" تحت عنوان: الرضا: نجاة وفلاح، نجاة في الدنيا من التأثر بآلامها ومصائبها، ونجاة في الآخرة من سخط الله وغضبه وعقابه، وفلاح في الدنيا بما يحصل للعبد من سعادة وطمأنينة وسرور، وفلاح في الآخرة بفوز العبد برضا ربه ورضوانه.
إنه الرضا، وما أدراكما الرضا، جنة الدنيا، ومستراح العابدين، ونعيم العارفين، وحياة المشتاقين.
والرضا: هو سكون القلب، وراحته، باختيار الله عز وجل، بلا جزعٍ ولا وجع.
والرضا: سرورُ القلب بِمُر القضاء، واستقبالُ الأحكام بالفرح، وارتفاع الجَزَع، وانتفاء السخط.
فلا رضا مع السخط، ولا رضا مع الجزع، وإنما الرضا تفويض وتسليم، مع كامل المحبة والتعظيم لله رب العالمين.
🟢مكانة الرضا وفوائده:
الرضا مقام عظيم من مقامات الإيمان واليقين؛ من رُزقه فقد رُزق خيرا كثيرا، ومن حُرمه فقد حُرم خيرا كثيرا. فقد قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ رَضِي بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا». رواه مسلم.
امتدح الله تعالى المتخلقين به، وأثنى عليهم، ووعدهم برضاه جزاءَ رضاهُم، فقال سبحانه: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
الرِّضا عطاء وإحسان من الله لعباده في الدنيا والآخرة؛ عطاء في الدنيا، لمن رضي عن الله، فلم يتسخط، ولم يعترض على قضاء الله وحكمه، فينال برضاه رضا الله وهو أعظم وأكمل وأجمل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنّ عِظَم الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ».
والرضا عطاء في الآخرة لأهل الجنة؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»؛ رواه البخاري ومسلم.
في الرضا خير وبركة، بركة في المال، بركة في الرزق، بركة في الصحة، بركة في الأجر، بركة في كل شيء، فعن أحمد بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارَك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له».
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إن الخيرَ كلَّه في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى، وإلا فاصبِرْ".
بالرضا نتخلصُ من اضطرابات النفس وأزماتها؛ لأنه طاردٌ للقلق والضجر، عند فوات مُرادٍ، أو حصول مكروه.
فكثير من الهموم والضغوط النفسية - التي تنعكس سلبًا على صحة الإنسان وحياته ـ سببها كثرة الجزع، وتوالي السخط، وانعدام الرضا.. ومَنْ حُرِمَ لذَّةَ الإيمان ونعيمَ الرضا؛ فهو في قلقٍ واضطراب، وشقاءٍ وعذاب، خاصة عندما يَحِلُّ به بلاء، أو تنزل به مصيبة، فتسْوَدُّ الحياة في عينيه، وتُظلِم الدنيا في وجهه، وتَضيقُ عليه الأرض بما رَحُبَت، ويأتيه الشيطان ليوسوس له: أنه لا خلاصَ له من همومه وأحزانه إلاَّ بالانتحار.
بالرضا تنال السعادة، وتطمئن القلوب، وتهدأ النفوس، وتتحول الآلام والشدائد إلى مسرات ولذائذَ؛ لأنَّ هذا المؤمن يتعامل مع الأقدار الإلهية بلُغةِ الحب والرضا، لا بلُغةِ الاختبار والتحدي، فهو يعلم أن كل ما يصيبه فبإذن الله وقدَره، وهو العليم الحكيم، اللطيف الخبير، الرحمن الرحيم، فما ابتلاه إلا ليطهره ويرفع درجته، وقد قال تعالى: ﴿ ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هي المصيبات تصيبُ المرءَ، فيَعلمُ أنها من عند الله، فيسلِّم ويرضى".
فالسعيد من رضِي بالله وقدَره وقضائه وحكمِه، رضا تسليم واقتناعٍ، لا رضا غلبة وقهر، رضَا من امتلأ قلبه محبة لله، وإيمانًا بقدره وقضائه، ويقينًا في وعده وجزائه، رضًا يَغمُر النفس هدوءًا وطُمأنينةً، وفرحًا وسعادة، رضًا يُهدِّئ القلبَ عند فواتِ محبوب، ويثبته عند حصول مكروه، رضًا عن الله دون تَشَكٍّ أو سخطٍ، أو تبرُّمٍ أو ضجرٍ، أو شقٍّ للجيوب، أو لطمٍ للخدود، أو نياحةٍ على ميِّتٍ، أو دعاءٍ بدعوى الجاهلية.
🟢صُوَر من الرضا:
ما أكثر النماذج من أهل الرضا، الذين وفَّقهم الله عز وجل، فرَضوا عن الله تعالى، في قضائه وحكمه وشرعه، صابرين في البأساء، شاكرين في السراء، فجزاهم الله تعالى بثوابه ورضاه، كما قال تعالى عن السابقين الأولين: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
وكيف لا يكون حالهم كذلك وهم الذين تربوا على يد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي تبوأ أعلى مقامات الرضا، فعاش راضيًا صابرًا محتسبًا، لم ييئَس من شدة المحن، ولم يقنط من كثرة الأعداء، ولم يقلق من شغف العيش، يصف لنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أثاث بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين دخل عليه، فقال: وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، (ورق شجر يدبغ به، مصبوبًا؛ أي مسكوبًا)، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ (جلود) مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ»؛ البخاري.
فلننظرْ سويًّا إلى رضا الصالحين وإيمانهم بالقضاء والقدر، كيف كان أثره على ثباتهم وكلماتهم؟ وكيف عبَّروا عنه بإشراقةِ لفظٍ وجمال عبارةٍ وعميق معنى، حتى صارت حِكَمًا تدور على ألسنة الخلق، ويُهتدى بها إلى الحق.
فهذا سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم باستجابة دعائه، فقال: «اللهم سدد رميته وأجب دعوته»، لما قدم إلى مكة، وقد كُفَّ بصرُه، جعل الناس يُهرَعون إليه ليدعوَ اللهَ لهم، فجعَل يدعو لهم، قال عبدالله بن السائب: فأتيتُه وأنا غلام، فتعرَّفت عليه فعرَفني، فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فيُشفوْن، فلوْ دعوتَ لنفسك أن يردَّ اللهُ بصرَك، فتبسَّم، وقال: "يا بُنيَّ، قضاءُ الله أحبُّ إليَّ مِن بصَري"؛ (مدارج السالكين: 2 / 227).
وهذا عُروة بن الزبير رضي الله عنهما قُطِعت رِجْله، ومات أعزُّ أولاده في ليلة واحدة، فدخَل عليه أصحابه يُعَزّونه، فقال: "اللهم لك الحمد، كان أولادي سبعة، فأخَذتَ واحدًا وأبْقَيت ستة، وكان لي أطرافٌ أربعة، فأخَذت واحدًا وأبْقَيت ثلاثة، فلئن كنتَ قد أخَذت، فلقد أعْطَيت، ولئن كنتَ قد ابْتَلَيْتَ، فقد عافَيْت".
ويقول ثابت البناني: مات عبدالله بن مطرف بن الشخير، فخرج التابعي مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادَّهن، فغضبوا، وقالوا: يموت عبدالله ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنًا؟ فقال: أفأستكين لها، وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا وما فيها.
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157].
ولا يخلو زمان من نماذج في الرضا، ممن أصابهم البلاء والابتلاء، فلم يجزعوا ولم يتسخطوا، وإنما رَضوا وصبروا،
حين تَمرُّ برجل فاقدٍ لبصره، تتعجَّب من ابتسامة تملأ وجْهَه، وعباراتِ الشُّكر والرضا يَلهج بها لسانُه، لا يشكو لأحدٍ، ولا يَضْجَر من حاله، فتقول سبحان الله: كم منَّا مِن مُبصرٍ يشكو من الدنيا وهمومِها وهو سليمٌ يُبصر!.
وحين تزور مريضًا لازَمَ السَّريرَ لسنوات، ربما لا يتحرَّك منه شيء سوى رأْسٍ يحرِّكه يُمنة ويُسرة، ولسانٍ ذاكرٍ شاكر، فتَشعر بانشراح صدْره وتقَبُّله لمرضِه، وتقول في نفسك: كم منَّا من معافًى يتحرَّك ويذهب، ويغدو ويتنقَّل في كلِّ مكان، ومع ذلك يَمقُت حاله، ويشكو ظروفه.
وحين تجلس إلى جانب فقير، فتراه دائم البشر والسرور، دائمَ الذكر والشكر وحسنِ الثناء على الله، هادئًا مطمئنًّا، لا يشكو ولا يجزع ولا يتسخط، فيُنسيك هموم الدنيا وأحزانها، وتدرك حينها يقينًا أن الغنى إنما هو غنى القلب.
والنماذج في هذا كثيرة، لذلك قال ابن القيِّم رحمه الله: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمنًا، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".
فإذا كنت تحلم بالغنى فإنَّ خير الغنى غنى النفس، وخيرَ الزاد التقوى، وخيرَ ما أُلقي في القلب اليقينُ، فارْضَ بما قسَم الله تعالي لك تكن أغنى الناس، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لك تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ»؛ رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
• لا تتفكِّر في المفقود؛ كيلا تَجْحَدَ الموجود، وارْضَ بالقليل من الرزق، يُرضَ منك بالقليل من العمل.
• ارضَ بما كتَبَ الله لك، فلن تموت حتى تستوفي رزقك وأجلك، فلِمَ الخوف؟ تترقَّب المستقبل بهمٍّ كبيرٍ، وتعيش الحاضر وأنت تقاسي أحزانَ الماضي، فيضيع اليوم ويضيع العُمر وأنت بين حزنٍ على الماضي وهَمِّ المستقبل.
• انظر لمن هو دونك؛ لتَعرِفَ نِعَمَ الله عليك وأيادِيه عندك، وترضَى بما قسَم، وتَحمَدَه على ما أنعَم.
• عوِّد نفسَك الرضا يَهُنْ عليك ما قدَّرَ وقضى، فهو طريق أهل التقوى، وسبيل العز والهُدى.
• ارضَ به إذا حباك، وإذا عافاك، وإذا ابتلاك، وإذا أعدَمك، وإذا أغناك، وإذا منعك، وإذا أعطاك، واشكُره على ما قسَمه لك، واحْمَده على ما أولاك.
• ارضَ عن الله، يرضَ الله عنك، وتدبَّر قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾.
فاللهم ارضَ عنا، ووفِّقنا للرضا عنك، وارزقنا أنْفُسًا راضية بقضائك، مُحِبَّة للقائِك.
اللَّهُم اكشف عنا البلاء، واصرف عنا الوباء، يا رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الالوكة
المصدر:
《
#منتدى_المركز_الدولى》