فقه الصلاة على الميت
حُكمها:
فرضُ كفاية؛ لأمْره - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أكثر من حديثٍ بالصلاة على الميِّت، فقال في قصة الرجل الذي عليه الدَّين: ((صلُّوا على صاحبكم))[1].
حُكم الصلاة على الشهيد:
لا تجب الصلاة على شهداء المعركة ضد الكفار؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يُصلِّ على شُهداء أُحد[2]، ولكن لا بأْسَ لو صلَّينا عليهم أو على بعضهم؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّ بحمزةَ وقد مُثِّل به، ولَم يُصلِّ على أحدٍ من الشهداء غيره؛ يعني: شهداءَ أُحد[3].
إلا أنَّ الدارقطني قال: "هذه اللفظة غير محفوظة"[4]؛ يعني: "غيره"، وعلى هذا فيكون لفظ الحديث: "ولَم يُصلِّ على أحدٍ".
وعن شدَّاد بن الهَاد - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - آمَن به واتَّبَعه، ثم قال: أُهاجر معك، فلَبِثوا قليلاً، ثم نَهَضوا في قتال العدو، فأُتِي به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحمَل قد أصابَه سهمٌ، ثم كفَّنه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جُبَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قدَّمه، فصلَّى عليه"[5].
وفي المسألة نزاعٌ بين العلماء، وما ذكرتُه هو الأقرب للصواب، والعلم عند الله.
حُكم الصلاة على الطفل والسقط:
ثبَت أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والطفل - وفي رواية: والسِّقْط - يُصلَّى عليه، ويُدعى لوالدَيه بالمغفرة والرحمة))[6].
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أُتِي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصبيٍّ من صِبيان الأنصار، فصلَّى عليه"؛ الحديث[7]، فهذا يدلُّ على مشروعيَّة الصلاة على الطفل والسِّقط إذا بلَغ أربعة أشهرٍ.
قال الحسن البصري: "يُقرَأ على الطفل بفاتحة الكتاب، ويقول: اللهمَّ اجْعَله لنا فَرَطًا وسَلفًا وأجْرًا"[8].
هذا، وقد ذهَب الشيخ الألباني - رَحِمه الله - إلى أنَّ الصلاة على الطفل والسقط ليس على الوجوب؛ إنما هو مشروع فقط، وقد ذهَب إلى ذلك أيضًا ابن حزم، ودليلُهما حديث عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: مات إبراهيم ابن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، فلم يُصلِّ عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم [9].
حُكم الصلاة على مَن مات في حدٍّ:
عن عِمران بن حُصين - رضي الله عنه - أنَّ امرأة من جُهينة أتَت نبيَّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي حُبْلى من الزنا، فقالت: يا نبيَّ الله، أصبتُ حدًّا، فأَقِمْه عليَّ، فدعا نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليَّها، فقال: ((أحْسِن إليها، فإذا وضَعت، فأْتِني بها))، ففعَل، فأمَر بها نبيُّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فشُدَّت عليها ثيابُها، ثم أمَر بها فرُجِمت، ثم صلَّى عليها؛ الحديث[10].
الصلاة على مَن مات عاصيًا وعلى قاتِلِ نفسه:
تُشرع الصلاة على مَن مات من المسلمين، حتى لو مات وهو مُنبعث في المعاصي؛ سواء في ذلك التائب منها، أو الذي مات ولَم يَتُب، "إلاَّ أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يَتركوا الصلاة عليهم؛ عقوبةً وتأديبًا لأمثالهم"[11].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "ومَن امتنَع من الصلاة على أحدهم - يعني: القاتل والغال، والمَدين الذي ليس له وفاءٌ - زجْرًا لأمثاله عن مثل فعْله، كان حسنًا، ولو امتَنع في الظاهر ودعا له في الباطن - ليَجمع بين المصلحتين - كان أَوْلَى من تفويت إحداهما"[12].
وأمَّا قاتِلُ نفسه، فقد روى مسلم عن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: "أُتِي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - برجلٍ قتَل نفسه بمَشاقِص، فلم يُصلِّ عليه"[13]، واختَلف العلماء في حُكم الصلاة على قاتل نفسه؛ فذهَب بعضهم إلى ترْك الصلاة عليه؛ لهذا الحديث، وذهَب جمهور العلماء إلى الصلاة عليه، وأجابُوا عن هذا الاستدلال بأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يُصلِّ هو عليه زجرًا لأمثاله، لكنَّه لَم يَمنع من الصلاة عليه، ولَم يُنكِر على مَن يُصلي عليه[14].
الصلاة على مَن مات وعليه دَيْنٌ:
كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يصلي على مَن مات وعليه دَيْنٌ، ولَم يترك وفاءً لدَيْنه، ويَأمر أصحابه بالصلاة عليه، فإن ترَك وفاءً لدَيْنه، أو قضى عنه البعض، صلَّى عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثم إنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا فتَح الله عليه، تحمَّل الديون عن أصحابها، فكان يصلي على الموتى ولو كان عليهم ديون؛ عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُؤتى بالرجل الميِّت عليه الدَّيْن، فيسأل: ((هل ترَك لدَيْنه من قضاءٍ؟))، فإن حُدِّث أنه ترَك وفاءً، صلَّى عليه، وإلاَّ قال: ((صلُّوا على صاحبكم))، فلمَّا فتَح الله عليه الفتوح، قال: ((أنا أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، فمَن تُوفِّي وعليه دَيْن - وفي رواية: ولَم يَترك وفاءً - فعليَّ قضاؤُه، ومَن ترَك مالاً، فهو لورَثته))[15].
قال القاضي عِياض: "مذاهب العلماء كافة: الصلاة على كلِّ مسلمٍ، ومحدود، ومَرجوم، وقاتل نفسه، ووَلَد الزنا، وعن مالك وغيره أنَّ الإمام يَجتنب الصلاة على مقتولٍ في حدٍّ، وأنَّ أهل الفضل لا يُصلُّون على الفُسَّاق؛ زجرًا لهم"[16].
الصلاة على الغائب:
يجوز الصلاة على الميِّت إذا مات غائبًا عن المسلمين في بلادٍ لَم يُصلِّ عليه فيها أحدٌ.
فعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلَّى على أَصْحمة النجاشي، فكبَّر عليه أربعًا[17].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نعى النجاشي في اليوم الذي ماتَ فيه، وخرَج بهم إلى المُصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات[18].
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "ولَم يكن من هَدْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُنتِه الصلاةُ على كل ميِّت غائبٍ، فقد مات خلْقٌ كثير من المسلمين وهم غُيَّبٌ، فلم يُصلِّ عليهم، وصحَّ عنه أنه صلَّى على النجاشي صلاته على الميِّت، فاخْتُلِف في ذلك على ثلاث طرق:
1- أنَّ هذا تشريع وسُنَّة للأُمة: الصلاة على كلِّ غائبٍ، وهذا قول الشافعي، وأحمد.
2- وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاصٌّ به، وليس ذلك لغيره.
3- وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "الصواب أنَّ الغائب إن مات ببلدٍ لَم يُصلَّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه صلاةُ الغائب، كما صلَّى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار ولَم يُصلَّ عليه، وإن صُلِّيَ عليه حيث مات، لَم يُصَلَّ عليه صلاة الغائب؛ لأن الفرض سقَط بصلاة المسلمين عليه، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلَّى على الغائب وترَكه، وفعْلُه وتَرْكه سُنة"[19].
قلتُ: ومما يُستدل به لذلك: ما ثبَت في بعض روايات الحديث أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أخاكم قد مات بغير أرضكم، فقُوموا فصَلُّوا عليه))[20].
قال الشيخ الألباني: "ومما يؤيِّد عدم مشروعيَّة الصلاة على كلِّ غائب، أنه لَمَّا مات الخُلفاء الراشدون وغيرُهم، لَم يُصلِّ أحدٌ من المسلمين عليهم صلاة الغائب، ولو فُعِل، لتواتَر النقل بذلك عنهم"[21].
الصلاة على القبر:
إذا لَم يُدرك الإنسان الصلاة على الجنازة حتى دُفِنت، فإنه يجوز له أن يُصَلِّي عليه عند القبر؛ لِما ثبَت في "الصحيحين" أنَّ امرأة سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجد (أو شابًّا)، فماتَت، ففقَدها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسأل عنها (أو عنه)، فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتُم آذَنْتُموني!))، قال: فكأنَّهم صغَّروا أمرَها (أو أمْرَه)، فقال: ((دلُّوني على قبره))، فدَلُّوه، فصلَّى عليها، ثم قال: ((إنَّ هذه القبور مملوءة ظُلمةً على أهلها، وإن الله - عزَّ وجلَّ - يُنوِّرها لهم بصلاتي عليهم))[22].
وقد اختَلف أهل العلم في الصلاة على القبر؛ قال ابن المنذر: "قال بمشروعيَّته الجمهور، ومنَعه النَّخعي ومالك، وأبو حنيفة، وعنهم: إن دُفِن قبل أن يُصلَّى عليه، شُرِع، وإلاَّ فلا"[23].
هذا، وذهَب بعضهم إلى أنه خاصٌّ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقوله في آخر الحديث: ((وإن الله يُنوِّرها لهم بصلاتي عليهم)).
قلتُ: لكن ثبَت نحو هذه القصة وفيه: "فأمَّنا، وصفَّنا خلْفه"[24]، وفي ذلك دليلٌ على عدم الخصوصيَّة.
قال الشوكاني: "وقد عرَفت غير مرَّة أنَّ الاختصاص لا يَثبت إلاَّ بدليلٍ، ومجرَّد كون الله يُنوِّر القبور بصلاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أهلها لا يَنفي مشروعيَّة الصلاة على القبر لغيره، لا سيَّما بعد قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صلُّوا كما رأيتموني أُصلي))[25].
قلتُ: والراجح جواز الصلاة على القبر؛ سواء صُلِّيَ على الميِّت، أم لَم يُصلَّ عليه.
وأمَّا المدة التي يُمكن أن يُصلَّى فيها على القبر بعد دفْنه، فقد اختَلفوا في ذلك؛ فمنهم مَن حدَّه بثلاثة أيام، ومنهم مَن حدَّه بشهرٍ، ومنهم مَن قال: ما لَم يُترَّب، وليس هناك دليلٌ لهذا التفريق، والظاهر جوازه مطلقًا، والعلم عند الله.
[1] البخاري (2295) من حديث سلَمة بن الأكْوَع، ورواه الترمذي (1069)، والنسائي (4/ 65)، وابن ماجه (1407) من حديث أبي قتادة.
[2] انظر: صحيح البخاري (1343).
[3] رواه أبو داود (3137)، وإسناده حسنٌ.
[4] انظر: فتح الباري (3/ 210).
[5] صحيح؛ رواه النسائي (4/ 60)، والحاكم (3/ 595).
[6] صحيح؛ رواه أبو داود (3180)، والنسائي (4/ 55 - 56)، وابن ماجه (1507).
[7] مسلم (2662)، وأبو داود (4713)، وأحمد (6/ 28)، والنسائي (4/ 57)، وقوله: "فصلَّى عليه" من رواية النسائي وأحمد، وسندُها صحيح.
[8] البخاري تعليقًا (3/ 203).
[9] رواه أبو داود (3187)، وأحمد (6/ 267).
[10] مسلم (1696)، وأبو داود (4440)، والترمذي (1435)، والنسائي (4/ 63).
[11] انظر: أحكام الجنائز؛ للألباني، ص (83).
[12] الاختيارات الفقهية، ص (159).
[13] مسلم (978)، وأبو داود (3185)، وابن ماجه (1526).
[14] نقلاً من شرْح النووي على صحيح مسلم (7/ 47).
[15] البخاري (6731)، ومسلم (1619)، وأبو داود (3343)، والترمذي (1070)، والنسائي (4/ 66)، وابن ماجه (2415).
[16] نقلاً من شرْح النووي لصحيح مسلم (7/ 47).
[17] البخاري (1334)، ومسلم (952)، والترمذي (1022).
[18] البخاري (1318)، ومسلم (951).
[19] انظر: زاد المعاد (1/ 519 - 520).
[20] ابن ماجه (1537).
[21] انظر: أحكام الجنائز، ص (93).
[22] البخاري (1337)، ومسلم (956)، واللفظ له، وأبو داود (3203)، وابن ماجه (1527).
[23] انظر فتح الباري (3/ 205).
[24] صحيح؛ رواه ابن حِبَّان (3087)، وأحمد (4/ 288).
[25] انظر: نيل الأوطار (4/ 91).
الشيخ عادل يوسف العزازي
۩❁
#منتدى_المركز_الدولى❁۩