(إن إبراهيم كــان أمــة ) روائع من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام
إن قصَّة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من أروع القصص القرآني التي نستطيع أن نقف معها، ونُبيِّن منها الدروس والعبر للدعاة في كل زمان؛ فهو كما وصَفَه ربُّه: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل: 120] ، ولكنَّ السؤال: كيف كان خليل الرحمن أمَّة؟ ما هي الخصال التي أهَّلته لهذا الوصف العظيم من ربِّ العالمين؟
لو تدبَّرنا آيات القرآن الكريم، لوجدْنا أن إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - كان أمة في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه؛ أي: إن هناك صفاتٍ اتَّصف بها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في نفسه، وصفات اتَّصف بها في مجتمعه، وصفات اتَّصف بها مع أهل بيته، كل هذه الصفات أهَّلته لهذا الوصف الجامع من ربِّ العالمين، فهيَّا بِنا نقف مع آيات القرآن الكريم التي تحدَّثت عن هذه الصفات؛ نُحاول أن نفهمها، ونقف معها، ونتدبَّرَها، ونعمل بها؛ فإن التشبُّه بالرجال فلاح.
معنى كلمة الأمة:
هناك كثير من الصفات التي اتَّصف بها خليل الرحمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - هذه الصفاتُ أهَّلته -صلى الله عليه وسلم- لهذا الوصف: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120] ومعنى الأمة: هو الإمام الذي يُقتدى به؛ قال عبد الله بن مسعود: الأمة مُعلِّم الخير، وقال ابن عمر: الأمة الذي يُعلِّم الناس دينَهم، وقال مجاهد: أي: أمة وحده .
الصِّفات التي أهَّلت إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لهذا الوصف:
1) إن إبراهيم كان أمة في توحيد الله -تعالى- وعدم الإشراك به:
ومعنى توحيد الله - عز وجل -: الاعتقاد الجازم بأن الله ربُّ كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الذي يستحقُّ وحده أن يُفرَد بالعبادة؛ مِن صلاة، وصوم، ودعاء، ورجاء، وخوف، وذلٍّ، وخضوع، وأنه المتَّصف بصفات الكمال كلِّها، والمُنزَّه عن كل نقص .
وهذا التوحيد اتَّصف به نبي الله إبراهيم - عليه السلام - وذكره الله عنه في أكثر من آية؛ قال تعالى: ﴿ قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل: 120]؛ فالقانت هو: الخاشع المُطيع، والحنيف هو: المُنحرِف قَصدًا من الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل: 120] .
ومِن ثمرات التوحيد أنه كان شاكِرًا لنعم الله عليه، ويظهر هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ آل عمران: 67]؛ وهذا أيضًا يظهر في إفراده -صلى الله عليه وسلم- ربَّه في الدعاء، وخشوعه وخوفه منه - تبارك وتعالى - قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [ إبراهيم: 35]، ففي هذا المقام احتجَّ على مُشركي العرب بأن البلد الحرام مكة إنما وُضعتْ أول ما وضعت لعبادة الله وحده لا شريك له، ثم دعا ربه -تعالى- لهذه البقعة بالأمن: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾، وقد استجاب الله له؛ فقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ [ العنكبوت: 67 ] .
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، قال ابن مسعود: الأوَّاه هو الدَّعَّاء، وقال ابن جرير: قال رجل: يا رسول الله، ما الأوَّاه؟ قال: ((المُتضرِّع))، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [ هود: 75]؛ فالحليم: الذي يحتمل أسباب الغضب فيَصبِر ويتأنَّى ولا يَثور، والأوَّاه: الذي يتضرَّع في الدُّعاء، والمنيب: الذي يعود سريعًا إلى ربه.
هكذا كان نبيُّ الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان موحِّدًا لله - عز وجل - فما أحوجَنا أن نعيش بهذا التوحيد فلا نشرك مع الله شيئًا! وذلك عن طريق:
• وجوب إخلاص المحبَّة لله؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولمن والاهم، والبراءة من المشركين والكافرين وأعداء الدين ومن الظالمين، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24] .
• وجوب إفراد الله تعالى في الدعاء والتوكُّل والرجاء؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس: 106] ، ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة: 23]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218] .
• وجوب إفراد الله -تعالى- بالخوف منه؛ قال تعالى: ﴿ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [ النحل: 51]، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].
• وجوب إفراد الله - عز وجل - بجميع أنواع العبادات البدنية؛ من صلاة، وركوع، وسجود، وصوم، وذبح، وطواف، وجميع العبادات القولية؛ مِن نذْر، واستِغفار؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [ النساء: 48]؛ هكذا كان إبراهيم - عليه السلام - مُخلصًا العبادة لله، وهكذا يجب علينا أن نكون.
2) إن إبراهيم كان أمة في الاطمئنان واليقين وفي عبادته لربه:
ما أجمل أن يعيش الإنسان لفِكرة هي كل حياته، يُضحِّي في سبيلها بكلِّ غالٍ ونفيس! هكذا عاشَ خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - ويَظهر ذلك في كثير من الآيات؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ البقرة: 260].
قال ابن كثير - رحمه الله - في هذه الآية: إن لسؤال إبراهيم أسبابًا، منها: أنه لما قال لنمرود: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [ البقرة: 258] أَحبَّ أن يترقَّى مِن علم اليقين إلى عَين اليَقين، وأن يرى ذلك مُشاهَدةً.
انظر إلى القلب المطمئن بوعد الله وبما عند الله ، كان أمة عليه السلام ، وفي موضع آخر يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ﴾ [الأنعام: 81]، وقبل ذلك يُواجِهُهم في طمأنينة ويقين؛ قال: ﴿ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾ [الأنعام: 80]، وقبله أيضًا قال الله - عز وجل -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75] .
فلا بدَّ للمؤمن السائر في طريق الله أن يكون مُطمئنًّا مُتيقِّنًا في طريق الله - عز وجل - وهذا ما ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة عليه، ولقد بلغ الإيمان ببعض هؤلاء الصَّحابة إلى درجة قال فيها: لو كُشفَ عنِّي الحِجاب ما ازددتُ يَقينًا.
وفي حديث الحارث بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - ما يُعطينا الصُّورة المُشرِقة لهذا الإيمان، فقد مرَّ حارثة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: )) كيف أصبحت يا حارثة؟))، قال: "أصبحتُ مؤمنًا حقًّا"، قال: ((انظر ماذا تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟)) قال: "عزفت نفسي عن الدنيا، فأَسهرتُ لَيلي، وأظمأْتُ نَهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربِّي بارِزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يَتزاوَرون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتضاغَون فيها، فقال: ((عرفت - يا حارثة – فالزَم )) .
وهكذا يجب أن يكون حالنا مع الله - عز وجل – واثقين في موعود الله ، على يقين في بنصر الله ، وأنه قريب، نبذل ونضحي بكل ما نملك الغالي والثمين في سبيل نصرة هذا الدين، ولو ضحينا بأغلى ما نملك أنفسنا التي بين جنبينا، ونحن على يقين بنصرة الدين، وبنصر الله لدينه ولأوليائه .
ولكَي نَصِل إلى هذه الطُّمأنينة واليقين لا بدَّ مِن الإيمان بالله - عز وجل - فالطمأنينة أثرٌ مِن آثار الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [ الفتح: 4] .
وإذا اطمأنَّ القلب وسكنَت النفس، شعَر الإنسان ببرد الراحة، وحلاوة اليَقين، واقتحم الأهوال بشجاعة، وثبَت إزاء الخطوب مهما اشتدَّت، ورأى أن يد الله ممدودة إليه، وأنه القادر على فتح الأبواب المُغلَقة، فلا يتسرَّب إليه الجزع، ولا يعرف اليأسُ إلى قلبه سبيلاً؛ ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة: 257] .
3)إن إبراهيم كان أمة في الصدق، الوفاء:
أما عن الصدق، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [ مريم: 41]، قال ابن كثير - رحمه الله -: كان صدِّيقًا نبيًّا مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام.
قال صاحب الظلال: لفظة "صدِّيق" تحتمل أنه كثير الصِّدق، وأنه كثير التصديق، وكلتاهما تُناسِب شخصية إبراهيم.
أما عن الوفاء؛ فقد قال تعالى﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]؛ أي: بلغ جميع ما أُمر به.
إبراهيم الذي وفي
قد ذكر الله عز وجل آيات تبين للأمة كيف كان هذا الوفاء , والاستسلام لله عز وجل من إبراهيم عليه السلام فقال العلي العظيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [البقرة: 131].
فعلم البشرية كلها كيف كان الاستسلام وكيف كان الوفاء لله عز وجل وطاعته فيما أمر.
إبراهيم الذي وفي: قال تعالي: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
أتم ما عليه لله عز وجل فعلم البشرية كيف كان الوفاء والسمع والطاعة لله عز وجل .
إبراهيم الذي وفي: أمره الله أن يدعوا الناس إلي توحيد الله، وترك ما يعبدون من دون الله وأعطاه الرشد وفتح عليه بحب هذا الدين فكان قال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فعلم البشرية معني الوفاء لله عز وجل.