الحث على محاسبة النفس ومراقبتها، والاعتبار من مرور الزمان، وحصول الأحداث ووقوع الوقائع
🟢المقدمة : أما بعد، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
قال العلامة السعدي رحمه الله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي: يذهب أحدهما فيخلفه الآخر، هكذا أبدا لا يجتمعان ولا يرتفعان، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي: لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار، فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الآخر، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة والقبض والبسط والإقبال والإعراض، فجعل الله الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر لله في وقت آخر، ولأن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل والنهار، فكما تكررت الأوقات أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد في تذكرها وشكرها، فوظائف الطاعات بمنزلة سقي الإيمان الذي يمده فلولا ذلك لذوى غرس الإيمان ويبس. فلله أتم حمد وأكمله على ذلك. انتهى.
بين يدي الخطبة:
مضى عام من عمرنا
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
ها نحن نودع عامًا مضى من أعمارنا، ونستقبل عامًا جديدًا، ابتعدنا به عن المَولد والمهد واقتربنا به من القبر واللحد، إذ إن أعمار هذه الأمة ليست بالطويلة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ، إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ». أخرجه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
فالعبد يتقلب بين ليل ونهار ويوم وآخر وليلة وأخرى وشهر وآخر وسنة وأخرى حتى ينقضي عمره أمام عينيه، عَنِ الْحَسَنِ البصري رحمه الله أنه قَالَ: ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ بَيْنَ مَطِيَّتَيْنِ يُوضَعَانِكَ يُوضِعُكَ اللَّيْلُ إِلَى النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ إِلَى اللَّيْلِ، حَتَّى يُسَلِّمَاكَ إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَعْظَمُ مِنْكَ يَا ابْنَ آدَمَ خَطَرًا.
وكَتَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَخٍ لَهُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِكَ. وَالسَّلَامُ».
وحكي أن قومًا وقفوا على عالم، فقالوا: له إِنَّا سائلوك أَفَمُجِيبُنَا أنت؟ قال: سَلُوا ولا تُكْثِرُوا فإنَّ النَّهارَ لن يرجعَ، والعمرَ لن يعودَ، والطالب حثيث في طلبه، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم، فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال: الأيام صحائف الأعمال، فَخَلِّدُوهَا أَحْسَنَ الأعمال، فإنَّ الفرصَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتَزَوَّجَ التواني بالكسل فولد بينهما الخسران. انتهى.
ومع هذا فإن أكثر الناس مغبونون في اغتنام أعمارهم وأوقاتهم، والموت يأتي بغتة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ». أخرجه البخاري.
إن التفكر في مرورالأيام وتعاقب الليالي يقلق العقلاء، بحيث يحمل الأكياس على الاجتهاد في اغتنامها بالأعمال الصالحة،
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلَا آبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا مَالًا تَلَفًا". أخرجه أحمد وصححه الألباني.
إن مرور الأيام والسنون تعني نقصان عمر الإنسان، فكل يوم يمر يقترب به العبد من أجله وختام عمره، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: ابْنَ آدَمَ طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمِكَ، فَإِنَّهَا عَنْ قَلِيلٍ تَكُونُ قَبْرَكَ، ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ. ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي هَدْمِ عُمُرِكَ مُنْذُ يَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَعَدَ: إِنَّكُمْ فِي مَمَرِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي آجَالٍ مَنْقُوصَةٍ، وَأَعْمَالٍ مَحْفُوظَةٍ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا يُوشِكْ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً، وَمَنْ زَرْعَ شَرًّا يُوشِكْ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً، وَلِكُلِّ زَارِعٍ مِثْلُ مَا زَرَعَ، فَلَا يَسْبِقُ بَطِيءٌ بِحَظِّهِ، وَلَا يُدْرِكُ حَرِيصٌ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ لَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ خَيْرًا فَاللَّهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ وُقِيَ شَرًّا فَاللَّهُ وَقَاهُ، الْمُتَّقُونَ سَادَةٌ، وَالْعُلَمَاءُ قَادَةٌ، وَمُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ.
وعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ أنه قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا يُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمَنِي لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلَا لَيْلَةٌ إِلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمَنِي لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي.
وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ انه قَالَ: مَا مَضَى يَوْمٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَقُولُ عِنْدَ مُضِيِّهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الَّذِي قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ جَدِيدًا، وَقَدْ حَانَ مِنِّي تَصَرُّمٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُ مُحْسِنٌ أَنْ يَزْدَادَ فِيَّ إِحْسَانًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ مُسِيءٌ أَسَاءَ أَنْ يَسْتَعْتِبَ فِيَّ مَنْ أَسَاءَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنِي الْيَوْمَ الْعَقِيمَ، ثُمَّ يَذْهَبُ.
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله أنه قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، مَضَى أَمْسِ بِمَا فِيهِ، وَغَدًا لَعَلَّكَ لَا تُدْرِكُهُ، فَانْظُرْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ فِي يَوْمِكَ، وعَنِه أنه قَالَ: لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلَّا يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيَّ شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وعن شُمَيْطِ بْنِ عَجْلَانَ رحمه الله أنه قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: إِنَّمَا هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَقَدْ مَضَى أَمْسِ بِمَا فِيهِ، وَغَدًا أَمَلٌ لَعَلَّكَ لَا تُدْرِكُهُ، وَيَوْمُكَ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ غَدٍ، فَإِنَّ غَدًا يَجِيءُ بِرِزْقِ غَدٍ، إِنَّ دُونَ غَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً تَخْتَرِمُ فِيهَا أَنْفُسٌ كَثِيرَةٌ، لَعَلَّكَ الْمُخْتَرِمُ فِيهَا، كَفَى كُلَّ يَوْمٍ هَمُّهُ.
وعن عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ أنه قال: «اعْمَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِي هَذَا اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ، فَإِنَّ الْمَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إِنَّمَا جُعِلَا سَبِيلًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَوَبَالًا عَلَى الْآخَرِينَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَحْيُوا لِلَّهِ أَنْفُسَكُمْ بِذِكْرِهِ، فَإِنَّمَا تَحْيَا الْقُلُوبُ بِذِكْرِ اللَّهِ، كَمْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ فِي اللَّيْلِ قَدِ اغْتَبَطَ بِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حُفْرَتِهِ؟، وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُولِ نَوْمِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْعَابِدِينَ غَدًا؟، فَاغْتَنِمُوا مَمَرَّ السَّاعَاتِ وَاللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ رَحِمَكُمُ اللَّهُ».
قال ابن القيم رحمه الله: السّنة شَجَرَة، والشهور فروعها، وَالْأَيَّام أَغْصَانهَا، والساعات أوراقها، والأنفاس ثَمَرهَا، فَمن كَانَت أنفاسه فِي طَاعَة فثمرة شجرته طيبَة، وَمن كَانَت فِي مَعْصِيّة فثمرته حنظل، وَإِنَّمَا يكون الجداد يَوْم الْمعَاد، فَعِنْدَ الجداد يتَبَيَّن حُلْو الثِّمَار من مرّها.
وكَانَ مُفَضَّلُ بْنُ يُونُسَ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ: «ذَهَبَ مِنْ عُمْرِي يَوْمٌ كَامِلٌ»، فَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «ذَهَبَتْ لَيْلَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ عُمْرِي»، فَلَمَّا احْتَضَرَ بَكَى وَقَالَ: "قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ لِي مِنْ كَرِّكُمَا عَلَيَّ يَوْمًا شَدِيدًا كَرْبُهُ، شَدِيدًا غُصَصُهُ، شَدِيدًا غَمُّهُ، شَدِيدًا عَلْزُهُ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي قَضَى الْمَوْتَ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ عَدْلًا بَيْنَ عِبَادِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأهُ الْقُرْآنَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، ثُمَّ تَنَفَّسَ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقد ذكر اللَّه موقفين للمرء يندم فيهما على فوات عمره وأوقاته:
الأول: عند ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة يتمنى لو منح مهلة من الزمن وأُخر إلى أجل قريب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَاءِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [المؤمنون: 100 - 99].
الثاني: في الآخرة حيث تُوَفَّى كل نفس ما عملت ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون} [السجدة: 12]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون . أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 55 - 56].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للَّه عزَّ وجلَّ.
وقال تعالى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
قال الحافظ ابن كثير: يَعْنِي: يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي -إِنْ كَانَ عَاصِيًا-، وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ ازْدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ -إِنْ كَانَ طَائِعًا-.
عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ، مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ، هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». أخرجه أحمد وصححه الألباني، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ رضي الله عنه -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النِّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لَحَقَّرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ». أخرجه أحمد وصححه الألباني وقال: موقوف في حكم المرفوع.
نظرة على الواقع والأحداث
مع مرور هذا العام فإننا لا ننسى ما حصل فيه لأمتنا من الوقائع والأحداث، فإن المسلم يفرح بفرح المسلمين، ويتألم بآلامهم، وقد وقع في هذا العام كثيرَا من الأحداث التي ألمت بأمتنا التي تدعو للتأمل في أحوالنا، والتبصر بواقعنا، والعمل لإصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا وصلاحها، ومن جملة تلك الأحداث:
• إعصار دانيال: في يوم الأحد 25 صفر 1445 للهجرة، الموافق:10 سبتمبر 2023، والذي ضرب شرق ليبيا ومدنه مثل درنة –وهي الأكثر تضررًا- وسوسة والمرج وبنغازي وطبرق، وراح ضحيته أكثر من عشرين ألفًا ما بين قتيل ومفقود، ودمرت البنية التحتية وسدود المياه في تلك المناطق. وقبله بشهور زلزال سوريا وتركيا المدمر، والذي راح ضحيته أكثر من 50 ألف نسمة.
• طوفان الأقصى: في يوم السبت 22 ربيع الأول 1445 للهجرة، الموافق: 7 أكتوبر 2023، استيقظ العالم على صرخات مجروح، وزفرات مهموم، فقامت المقاومة الفلسطينية بإصابة مباشرة، وضربة مؤلمة في جسد الكيان الصهيوني المغتصب، ولا تزال الحرب قائمة، وصمت العالم وخذلانه لإخواننا في غزة مخز ظالم، مع ما يعانيه أهل غزة من جوع وقتل وتدمير وتشريد وتهجير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
• حرب السودان: فمنذ سنوات ولم تقم للسودان قائمة، بسبب النزاعات والثورات الداخلية، إلا أن الأمر قد آل إلى اقتتال داخلي طائفي، راح ضحيته آلاف الأبرياء جراء الجوع والقتل والفساد، ألا قاتل الله من أشعل الفتنة وأمد الحرب بوقودها.
• ولم تنحصر تلك الآلام التي تعاني منها أمتنا فيما أصابها من الأقدار المؤلمة، أو تكالب الأعداء عليها، بل آلمها تمرد بعض أبنائها على تراثها ومنهجها، بالطعن وإعانة الأعداء عليها، فإن الأعداء أيسوا أن يظفروا بأنفسهم من أمتنا أو من تراثنا، فبات أملهم فيمن يتكلم بألسنتنا من بني جلدتنا بما يريدون من الضلالات والافتراءات والأفكار المنحرفة والمناهج الباطلة، ومن صور ذلك:
- الشيعة الروافض: وما اشتملت عليه دعوتهم من الطعن في أصول الإسلام وسب الصحابة وأمهات المؤمنين، والتمكين للأعداء، فقد استطاع الروافض –بالفعل- أن يبسطوا نفوذهم في دول بأكملها، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بالإضافة إلى مناطق أخرى من بعض الدول، ومحاولة التضييق –ما استطاعوا- على الدول السنية المعادية لهم كمصر والسعودية.
- غلاة الصوفية: وما اشتملت عليه دعوتهم من الفلسفات الكفرية، والخرافات الضالة، من عقيدة الحلول والاتحاد، والعشق الإلهي، والبدع الأصلية والإضافية، والغلو في بعض الأشخاص والقبور، ونشر صور من الشرك في التوسل والاستغاثة والاستعانة وطلب المدد من غير الله، وغير ذلك مما يدعون إليه علانية دون خجل أو استحياء.
- دعاة الباطل: فقد ظهر في عامنا هذا من يهدمون ثوابت راسخة في العقائد والأحكام والأخلاق والسلوكيات، فإن من المتقرر في الفطر المسلمة أن الله تعالى يمن على المؤمنين بجنته، ويعاقب الكفار بالنار، ثم يخرج على الأمة من يقول: إن الله قد يلغي النار ويدخل جميع الناس الجنة!
وظهر من يقول: إن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته من أهل الإيمان!
وظهر من يقول بجواز الاستغاثة والاستعانة بغير الله، وطلب النفع ودفع الضر من الأموات بدعوى أنهم من الأولياء أو الصالحين.
وظهر من يقول: إن العلاقات المحرمة بين الشباب والبنات لا بأس بها ما دامت بعلم والد الفتاة ويغلفها العفاف!
- مؤسسة تكوين: وما اشتملت عليه دعوتهم من تحريف النصوص، والطعن في السيرة النبوية والسنة المطهرة، والوقوع في علماء الأمة وأئمتها، والعمل على القضاء على تراث الأمة ومحوه من الوجود.
إن هذه الآلام تستوجب أن نقف وقفة تأمل ومحاسبة، وأن نعلم علم اليقين أن طريق النجاة هو العودة لله رب العالمين، وسبيل الفلاح في العمل بشرعه الذي أنزله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله، وأن نتسلح بالعلم النافع المبني على نور الوحيين من الكتاب والسنة، وأن نجالس العلماء الربانيين ونتعلم منهم ونسترشد برأيهم.
مراقبة النفس ومحاسبتها
الله تعالى هو الرقيب، الحسيب، الشهيد، المهيمن، يعلم كل شيء، وهو بكل شيء عليم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقد وكّل الله تعالى ملائكة ترصد على العباد أعمالهم، قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
والعاقل من الناس من راقب نفسه وحاسبها وألزمها الطاعة لئلا تورده المهالك، فإن العبد سيحاسب يوم القيامة فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب، قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وقال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وقال جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، وقال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، وقال تبارك وتعالى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.
يومئذ يشهد الشهود: فيشهد النبي صلى الله عليه وسلمَ ، وتشهد الملائكة، ويشهد على كل واحد كتابه، وتشهد الجوارح، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقال سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}.
فحاسب نفسك قبل أن يشهد الشهود، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}.
قال ابن القيِّم: دلت الآية على وجوب محاسبة النفس، فيقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدَّم ليوم القيامة من الأعمال، أَمِنَ الصالحات التي تنجيه؟ أم من السيئات التي توبقه؟
فعلى الفطن أن يراقب نفسه، ويعرف عيوبها، ويحاسبها على ذنوبها وتقصيرها، وأن يتق الله فيها، فيلزمها الطاعة قبل أن تورده المهالك، فإن العبد موقوف ومسئول بين يدي الله تعالى، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». أخرجه البخاري ومسلم، وعَنْ عبدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ». أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
ينبغي على العاقل أن يحاسب نفسه قبل الحساب، وأن يعد للسؤال جوابًا قبل السؤال، فإن كان مستقيماً على طاعة اللَّه فليحمد اللَّه وليسأل ربه الثبات، ومن كان مقصراً فليتدارك نفسه قبل فوات الأوان وليبادر إلى التوبة والإقلاع عن المعاصي والذنوب.
قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: حَاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهوَنُ عَلَيكُم فِي الحِسَابِ غَدًا، أَن تُحَاسِبُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ، وَتَزَيَّنُوا لِلعَرضِ الأَكبَرِ، يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ.
وقال ميمون بن مهران: لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح. انتهى.
ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، فينظر: هل العمل موافقٌ لكتاب الله وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم أم لا؟ فإن كان موافقًا أقدم، وإن كان مخالفًا ترك، ثم ينظر: هل فعله خير له من تركه؟ أو تركه خير له من فعله؟ فإن كان الثاني: تركه ولم يقدم عليه، ثم ينظر: هل هو خالص لله أم دخله دخن؟ فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره شيء منه ترك.
أما النوع الثاني: فهو محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أولاً: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم تفعلها على الوجه الذي ينبغي، وحق الله في الطاعة ستة أمور: الإخلاص لله في العمل، النصيحة لله فيه، متابعة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، شهود مشهد الإحسان فيه، شهود منة الله عليه، شهود تقصيره فيه، بعد ذلك كله يحاسب نفسه هل وَفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
ثانيًا: أن يحاسب نفسه على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية.
ثالثًا: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا من فعله.
رابعًا: أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ، أو معتادٍ، لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا؟ أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر.
ومن فوائد محاسبة النفس:
أولًا: الاطِّلاع على عيوب النفس، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته.
ثانيًا: دليل على الخوف من الله والاستعداد للقائه.
ثالثًا: تبين للمؤمن حقيقة الربح والخسران.
رابعًا: محاسبة النفس في الدنيا تريح المؤمن يوم القيامة.
خامسًا: فيه امتثال لأمر الله تعالى.
سادسًا: تبعد عن الغفلة، والاستمرار في المعاصي، والذنوب.
سابعًا: تعين المؤمن، وتساعده في استدراك ما نقص من الفرائض، والنوافل.
ثامنًا: تثمر محبة الله ورضوانه.
تاسعًا: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه، فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا.
عاشرًا: أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها .
صفحة جديدة
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ». أخرجه البخاري.
إن الناس لا يتفاضلون بمجرد طول الأعمار أو قصرها، فإن لكل إنسان عمر وأجل، وإنما يتفاضلون باغتنام تلك الأعمار، وخيرهم من طال عمره فاغتنمه بالطاعات، فعَنْ أَبِي بَكَرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
والناس صنفان: صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، فهذان صنفان: صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله عز وجل. وصنف قهرته نفسه، وغلبته نفسه، وجعلته مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، وقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}، وعن ثوبان رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا». رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
فينبغي على العبد العاقل اللبيب أن يحمد الله تعالى كثيرًا أن مد في عمره ولما يأتي أجله، فيزداد ثوابه إن كان محسنًا، ويستدرك ويتوب إن كان مقصرًا، وأن يبدأ صفحة جديدة يغتنم فيها أوقاته وما بقي من عمره، فها هي صفحة جديدة مع ربه ولزوم طاعته وعبادته، ومع نفسه وصلاحها أخلاقها وسلوكياته، ومع الناس وحسن معاملته إياهم
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر