[size=24]سـ8/ من هو الحاكم ؟
وما القاعدة الشرعية في إثبات الحكم الشرعي ؟
مع بيانها بالأدلة والأمثلة ؟
جـ/
أقول: الحاكم شرعاً وكوناً هو الله وحده لا شريك له جل وعلا في حكمه ولا
في تشريعه، فتوحيده بالحكم الشرعي هو من مقتضيات إفراده بالعبادة وتوحيده
بالحكم الكوني القدري من مقتضيات إفراده بتوحيد الربوبية، وكل ذلك يدخل تحت
قوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ وهذا أسلوب حصر فكأنه قال: لا
حاكم إلا هو جل وعلا، والحصر معناه: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه،
وأما التشريع الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه
من البلاغ عن الله تعالى، قال تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ وقال تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وقال
تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ وقد تقرر في علم
التفسير أن الحكمة إذا قرنت بالكتاب أو الآيات فإن المراد بها السنة،
عليه الصلاة والسلام (( ألا وإني أوتيت ومثله معه )) وسيأتي إن
شاء الله تعالى طرف كبير من هذه الأدلة في الاستدلال على قاعدة (السنة
حجة). فالحاكم هو الله وحده لا شريك له في حكمه، فكما أنه لا شريك له في
ملكه وسلطانه وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته فكذلك لا شريك له في حكمه
جل وعلا، فهو مصدر الأحكام جل وعلا سواءً كان ذلك في كتابه أو على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا بالنسبة لقولنا (من الحاكم) ؟ وأما القاعدة المعتمدة في إثبات الأحكام الشرعية فإنها تقول: (الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة) وقد شرحناها في رسالة مستقلة وخلاصتها أن نقول: إن الحكم الشرعي إنما يتلقى من الشارع فالأحكام الشرعية من الإيجاب والاستحباب والتحريم والندب كلها لا تؤخذ إلا من قبل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأي تعبد قولي أو فعلي ليس له دليل صحيح صريح فإنه تعبد لاغ باطل لا يجوز التعبد به
لله جل وعلا، ولا مدخل للعقول ولا المذاهب المخالفة للدليل ولا للأهواء
ولا للعادات والتقاليد وسلوم القبائل ولا للمكاشفات والأحلام ولا للنقول
الضعيفة الواهية والأخبار الباطلة الموضوعة ولا للقياسات الفاسدة ولا
للاستحسان مدخل في تشريع شيء من الأحكام الشرعية وإنما الحكم الشرعي وقف على الدليل الصحيح الصريح، فالعبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع والشريعة كلها من أولها إلى آخرها مبنية على أصلين:
الأول: أن لا نعبد إلا الله تعالى, الثاني: أن لا نعبده إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكل ما كان من العبادات واجباً أو مستحباً فلابد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم
لأمته فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً) وقال في موضع
آخر: ( الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي ومن أخبر عن الله تعالى إنه
يجب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به
الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم ) وقال في موضع آخر: (الحلال ما حلله -
أي الله ورسوله - والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فليس لأحد من المشايخ
والملوك خروج عن ذلك وكل من أمر بأمر كائناً من كان عرض على الكتاب والسنة فإن وافق ذلك قبل وإلا رد)ا.هـ. والأدلة على ذلك كثيرة جداً قد ذكرنا طرفاً منها في غير هذا الموضع منها:
قوله تعالى ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ وقوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً﴾
قال ابن تيمية رحمه الله (فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم
من واجب أو مستحب)ا.هـ. وقال تعالى ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ
آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وقال تعالى ﴿وَلا
تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ وقال تعالى ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ
مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ﴾ والآيات في هذا المعنى كثيرة " وقال عليه الصلاة والسلام » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد«"متفق عليه" وفي رواية لمسلم »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد« وقال عليه الصلاة والسلام »إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة« وهذه قاعدة متفق عليها بين أهل العلم رحمهم الله تعالى وإنما الخلاف في بعض تطبيقاتها فقط، فكل حكم شرعي ليس عليه أثارة من علم فإنه ليس من الشريعة، وهذا ما ندين الله تعالى به وأما الفروع على هذه القاعدة فهي كثيرة وأذكر لك ستة فروع فقط من باب التوضيح فأقول:-
منها: كراهة استقبال النيرين فإنه
مع شهرته في كتب بعض الفقهاء إلا أنه ليس من الشريعة في شيء لأن الكراهة
حكم شرعي، والحكم الشرعي يفتقر في ثبوته للدليل الصحيح الصريح وحيث لا
دليل. فالأصل عدم الكراهة.
ومنها: إثبات قسم الطاهر في المياه وترتيب بعض الأحكام الشرعية عليه فإنه لا دليل عليه ولا ذكر له في الأدلة أبداً فحيث لا دليل فالأصل عدمه لأن الحكم الشرعي يفتقر في ثبوته للأدلة الصحيحة الصريحة.
ومنها: إثبات بعض أحكامٍ للمبتدأة وهي التي ينزل بها الحيض أول مرة فإن
هذه الأحكام لا دليل عليها من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من
القياس الصحيح فضلاً عن كونها مخالفة للصحيح من الأدلة، فالحق إطراح هذه
الأحكام لأن الحكم الشرعي يفتقر في إثباته للدليل الصحيح الصريح.
ومنها: ادعاء مبطل من مبطلات الصلاة لا دليل عليه فإن
الأصل أن العبادات المنعقدة بالدليل لا تبطل إلا بالدليل والأصل عدم المبطل
وعلى مثبته الدليل لأن الحكم الشرعي وقف على الدليل الصحيح الصريح.
ومنها:
جميع البدع القولية أو العملية المنتشرة في العالم الإسلامي والعربي كلها
تدخل تحت هذه القاعدة لأن البدعة هي إحداث في الدين قولاً أو فعلاً لا دليل
عليه فادعاء وجوبها أو استحبابها من جملة الأحكام الشرعية والأحكام
الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة.
ومنها: استحباب طواف للقدوم للمتمتع بعد المجيء من عرفات فإنه
لا دليل عليه والاستحباب من أحكام الشريعة التي لا تفتقر في ثبوتها للدليل
الصحيح الصريح فهذه ستة فروع على هذه القاعدة ومن أراد الاستزادة منها
فليرجع إلى كتابنا في ذلك فإننا قد ذكرنا فيه خمسين فرعاً على هذه القاعدة. والله ربنا أعلى واعلم.
****
سـ9/ ما أقسام الحكم الشرعي وكيف تستنبط هذه الأقسام من
تعريف العلماء للحكم الشرعي ؟ وما الفرق بين هذه الأقسام ؟
جـ/ لقد قسم أهل العلم رحمهم الله تعالى الحكم الشرعي إلى قسمين:
الأول: الحكم التكليفي، الثاني: الحكم الوضعي، وعرفوا الحكم التكليفي
بقولهم: خطاب الشارع المتعلق بأعمال العباد بالاقتضاء أو التخيير، فيدخل تحت
ذلك الأحكام التكليفية الخمسة وهي الواجب والمحرم والمندوب
والمكروه والمباح ووجه ذلك أن قولهم (بالاقتضاء)
أي الطلب، والطلب قسمان: طلب فعل، وطلب ترك، وطلب الفعل قسمان طلب فعل
جازم وهو الوجوب، وطلب فعل غير جازم وهو المندوب، وطلب الترك قسمان: طلب
ترك جازم وهو المحرم وطلب ترك غير جازم وهو المكروه، فهذه أربعة أقسام،
وأما قولهم (أو التخيير) فيراد به المباح فهذه خمسة أقسام، وسيأتي
بعد قليل إن شاء الله تعالى سؤال خاص عن حكم تسمية هذه الأحكام
بالأحكام التكليفية, وأما الحكم الوضعي فعرفه أهل العلم بقولهم:
خطاب الشارع بجعل شيء شبباً لشيء أو شرطاً له أو مانعاً منه أو كون الفعل رخصة أو عزيمة،
ويدخل تحته البحث في الأسباب والشروط والموانع والرخصة والعزيمة وسبب
تسميته بخطاب الوضع أن الشارع وضع أي شرع أموراً سميت أسباباً وشروطاً
وموانع يعرف عند وجودها وجود الحكم الشرعي أو انتفاؤه، وذلك لأن الأحكام
توجد بوجود الأسباب والشروط وتنتفي بوجود الموانع أو انتفاء الأسباب
والشروط، ويتضح ذلك بمعرفة الفروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي وهي
كما يلي:
الأول:
أن الحكم الوضعي قد لا يدخل تحت قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس لوجوب
الظهر وغروبها لوجوب المغرب وحلول شهر رمضان لوجوب الصوم وحلول زمن الحج
لوجوب الحج وحولان الحول لوجوب الزكاة ونحو ذلك، فإن
الأشياء لا تدخل تحت قدرة المكلف أصلاً وأما الحكم التكليفي فإنه
لا يكون أبداً إلا بما هو مقدور عليه لقوله تعالى ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ وقال تعالى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ وهذا فرق جوهري بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي.
الثاني: أن الحكم الوضعي قد يدخل تحت القدرة إلا أن المكلف لم يؤمر
بتحصيله كتحصيل النصاب لوجوب الزكاة، فإن الزكاة لا تجب إلا إذا
بلغ المال الزكوي نصاباً لكن الشارع لم يأمر المكلف بتحصيل النصاب
لتجب عليه الزكاة، وأما الحكم التكليفي فإنه لابد أن يكون مطلوباً، إما
مطلوب الفعل وإما مطلوب الترك وبناء على هذين الفرقين فأقول:
كل حكم لا يدخل تحت قدرة المكلف فهو حكم وضعي وكل حكم
لم يؤمر المكلف بفعله أو تركه فهو حكم وضعي.
الثالث: أن الخطاب في الحكم الوضعي إنما
هو خطاب إخبار وإعلام فقط، وأما الخطاب في الحكم التكليفي فهو خطاب طلب،
إما طلب فعل وإما طلب ترك وإما بالتخيير بينهما، فحقيقة الخطاب تختلف بين
الحكمين.
الرابع:
أن الحكم الوضعي مطلوب لغيره، وأما الحكم التكليفي فهو مطلوب لذاته،
فالحكم الوضعي وسيلة تعريفية بالأحكام التكليفية، ذلك لأن الله جل وعلا قد
ربط الأحكام التكليفية بالأحكام الوضعية فجعل الحكم الوضعي علامة على
مطالبته بالحكم التكليفي، فإذا زالت الشمس فهذه علامة أنه يريد منا صلاة
الظهر وإذا غربت فهو علامة أنه يريد منا صلاة المغرب وإذا دخل شهر رمضان
بالرؤية أو بالإتمام فهو علامة أنه يريد منا صيامه، وإذا نزل الحيض على
المرأة فهو علامة على تحريم الصلاة والصوم والوطء والطواف وإذا حصل سفر فهو
علامة على استحباب القصر وغير ذلك من أحكام السفر وهكذا، وفائدة ذلك أن
الشريعة مستمرة إلى قيام الساعة والنبي صلى الله عليه وسلم
عمره قصير وسيموت فكيف يعرف المكلفون الأوقات التي يؤدون فيها العبادة أو
يتركونها ؟ فحرص الشارع على ربط الأحكام التكليفية بعلامات كونية وغيرها
يعرفها الجميع أو الأغلب فهذه العلامات هي الأحكام الوضعية، وبه تعرف أن
الحكم الوضعي ليس مطلوباً لذاته وإنما هو مطلوب لأنه وسيلة لتعريف المكلف بالحكم التكليفي والله أعلم.
الخامس: أن الحكم التكليفي مختص بالعاقل البالغ المختار وعليه حديث »إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه« وحديث »رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقض وعن المجنون حتى يفيق وعن الصغير حتى يحتلم« فلا تكليف إلا بعقل وبلوغ وفهم خطاب واختيار كما سيأتي إن شاء الله تعالى وأما الحكم الوضعي فإنه لا يختص بهؤلاء بل يدخل تحته غير العاقل كالمجنون فإن تضمين المجنون ما أتلفه هو من باب الحكم الوضعي، وكذلك ما أتلفته البهيمة فإن ضمانه إنما هو من باب الحكم الوضعي لكن ضمان تلفها يقع على صاحبها لأنها ليست محلاً صالحاً للضمان، ويدخل تحته فعل النائم فإن ما يتلفه النائم حال نومه إذا تعلق به حق للغير فإنه يضمنه، وضمانه من باب الحكم الوضعي لا التكليفي، ويدخل تحته أيضاً وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون فإن
القول الصحيح وجوب الزكاة في ماليهما لأن ذلك من باب الحكم الوضعي فهو من
باب ربط الأحكام بأسبابها، بل ويدخل تحته تضمين أشخاص لا ذنب لهم بسبب
جناية شخص آخر، كتحميل العاقلة دية الخطأ وشبه العمد، فإن العاقلة وهم
أقارب الرجل من قبل أبيه لم يتجانفوا الإثم ولم يباشروا الجناية التي حصلت
ولم يتسببوا فيها ومع ذلك يلزمهم دفع الدية عن قريبهم الجاني، فتحميل
العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد من باب الحكم الوضعي لا التكليفي، ويدخل
تحته ما أتلفه الصبي الصغير فإنه يضمنه من ماله إن كان له مال أو يضمنه
وليه فتضمين الصغير ما أتلفه هو من باب الحكم الوضعي، وذكر غير واحد من
العلماء أن ذلك من باب إقامة العدل بين العباد ومن باب حفظ الأموال حتى لا
تذهب سدى والمقصود: أن الحكم التكليفي لا يدخل تحته إلا العاقل البالغ
المختار، وأما الحكم الوضعي فإنه يدخل فيه غير هؤلاء,
فهذه مجمل الفروق بين الحكمين والله تعالى أعلى وأعلم.
يتبع/size]r]