سـ10/ كيف دخلت الإباحة تحت التكليف مع أنه لا كلفة فيها لأنها لا يتعلق بها أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ؟
جـ/ أقول: هذه المسألة يعرف جوابها إذا فهمت ثلاثة أمور:
الأول: أن الإباحة منها ما هو مستفاد من قبل الشارع ومنها ما هو جارٍ على حكم استصحاب الحل أي الإباحة العقلية فالإباحة الشرعية لحل الجماع في ليلة الصيام في قوله تعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ وكحلية صيد البحر للمحرم في قوله تعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ وكحلية سائر النساء إلا ما نص على تحريمه كما في قوله تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ وكحلية الطيبات في قوله تعالى ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ وقوله ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ وكحلية طعام أهل الكتاب في قوله تعالى ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ وغير ذلك، فهذه الإباحة أعني الإباحة المنصوص عليها في القرآن من التكليف لأن العبد المكلف باعتقاد حليتها وإباحيتها، بحيث لو أنكر حليتها فإن يكفر الكفر الأكبر لأنه مكذب لخبر القرآن، والقاعدة تقول: من كذب خبراً من أخبار القرآن فإنه يكفر, فحيث كان من المباحات ما هو شرعي ومنها ما هو عقلي غلب على أهل العلم جانب الشرع على العقل وألحقوا المباحات بالتشريع وجعلوها قسماً من أحكام التكليف تغليبا ً لجانب الإباحة المنصوص عليها في الشرع.
الثاني: أن هذه المباحات قد تكون في غالب أحيانها وسائل لشيء من أحكام التكليف الأربعة، فهي لصيقة بها جداً لأنها في الأعم الأغلب ما تكون وسائل وأنت تعلم أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمباح إذا كان وسيلة لواجب فإنه يكون واجباً، وإذا كان وسيلة لمندوب فإنه يكون مندوباً، وإذا كان وسيلة للحرام فإنه يكون حراماً، وإذا كان وسيلة لمكروه فإنه يكون مكروهاً، فلأن المباح تجري عليه الأحكام التكليفية الأربعة، جعلوه منها لأنه وسيلة لها والوسائل لها أحكام المقاصد والمقاصد هنا أحكام تكليفية فالوسيلة لها كذلك أيضاً تعطى حكمها فيكون المباح حكماً تكليفياً لأنه وسيلة للحكم التكليفي.
الثالث: أن القسمة في الحكم التكليفي لا بد أن تكون كاملة، ولا تكمل قسمته العقلية إلا بإدخال المباح فيه، وبيان ذلك أن يقال:- إن الحكم التكليفي مبناه على الطلب، والطلب قسمان طلب فعل وطلب ترك، وطلب الفعل قسمان: لازم وهو الواجب وغير لازم وهو المندوب، وطلب الترك قسمان: لازم وهو الحرام وغير لازم وهو المكروه، وبقي في هذا التقسيم ما ليس بمطلوب الفعل ولا بمطلوب الترك أي أن مبناه على التخيير، وهذا هو المباح فأدخلوه تحت أقسام الحكم التكليفي من باب تكميل القسمة كما ترى والله أعلم.
****
سـ11/ عرف الواجب ؟ وما ثمرته ؟ مع التمثيل ؟
جـ/ الواجب: لغة: هو اللازم والساقط، فمن إطلاقاته على اللازم قوله صلى الله عليه وسلم »غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم« وتقول لصاحبك: حقك علي واجب أي لازم متأكد, ومن إطلاقاته على الساقط قوله تعالى ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي سقطت على الأرض، ومنه قول جابر في الصحيحين »كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت« أي إذا سقطت وغربت، ومنه قول العرب: سمعت وجبة قوية أي سقطت قوية، ومن قولنا: وجب الجدار، ووجب الميت أي سقط وهكذا، فالواجب في اللغة العربية يطلق على الساقط ويطلق على اللازم والثابت، وأما تعريفه شرعاً: فهو ما طلب الشارع فعله على جهة الجزم والإلزام، وهذا أقرب التعاريف إلى حقيقة الواجب من التعاريف الأخرى، فقولنا (ما طلب الشارع فعله) يخرج به المحرم والمكروه لأن الشارع لم يطلب فعلها وإنما طلب تركها، ويخرج المباح أيضاً لأنه لا يتعلق به طلب لذاته، وقولنا (على جهة الجزم والإلزام) يخرج المندوب فإن الشارع طلبه ولكن ليس على جهة الجزم والإلزام وإنما على جهة الترغيب في الفعل فقط.
وأما ثمرته: فهي الثواب على الفعل امتثالاً واستحقاق العقاب على الترك، ولابد من كلمة امتثالاً لأن الواجب لا يثاب فاعلها، بل لا تصح إلا بالنية، أي نية الامتثال ومثال ذلك الصلاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام وإيتاء الزكاة وبر الوالدين وغير ذلك من الواجبات الشرعية وهي كثيرة جداً، فهذه الواجبات إذا فعلها العبد امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يثاب وإذا تركها فإنه يستحق العقوبة ولا بد من زيادة كلمة (ويستحق العقاب تاركه) لأن مذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في تارك الواجب أنه تحت المشيئة إن شاء الله تعالى غفر له وأدخله الجنة ابتداءً وإن شاء عذبه في النار ثم يخرجه منها إلى الجنة انتقالاً، فلا نجزم لتارك الواجب بأنه يعاقب وإنما نقول: إنه يستحق العقاب على هذا الترك خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يوجبون عقاب تارك الواجب ويعتقدون أن مرتكب الكبيرة إن مات وهو مصر عليها فإنه يعذب في النار خالداً مخلداً فيها أبداً، وأما أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى فإنهم لا يجزمون لأحد من أهل القبلة بجنةٍ ولا نار بل يرجون للمحسن الثواب ويخافون على المسيء العقاب وأن فاعل الكبيرة في الدنيا مؤمن بما بقي معه من الإيمان وفاسق بقدر ما معه من الذنب والعصيان، فاجتمع في حقه موجب الثواب وموجب العقاب فلا نجزم له بهذا ولا بهذا بل يكون تحت المشيئة كما ذكرنا ذلك بتفاصيله وأدلته فيما كتبناه في الاعتقاد، فهذا بالنسبة لتعريف الواجب وبيان ثمرته مع التمثيل عليه والله تعالى أعلى وأعلم.
****
سـ12/ ما الصيغ التي يعرف بها الواجب من غيره ؟ مع بياناها بالأمثلة ؟
جـ/ أقول: لقد ذكر الأصوليون أن هناك صيغاً يعرف بها أن هذا القول أو هذا الفعل واجب ودونك أهمها:
الأولى: فعل الأمر الذي لم يصرف إلى الندب بالقرينة الصارفة كقوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ وقوله تعالى ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وكقوله ورسوله صلى الله عليه وسلم »يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك« وكقوله صلى الله عليه وسلم »إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم اقرأ ما يتيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعاً ثم أرفع حتى تعتدل قائماً ثم أسجد حتى تطمئن ساجداً ثم أرفع حتى تطمئن جالساً ثم أسجد حتى تطمئن ساجداً ثم أرفع حتى تطمئن جالساً ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها«"متفق عليه" فهذه الأوامر الواردة في الآيات والأحاديث كلها تفيد الوجوب لأنها وردت بصيغة الأمر ولم يأت صارف لها عن بابها.
الثانية: الفعل المضارع المقرون بلام الأمر، فإذا وجدنا فعلاً مضارعاً وقد دخلت عليه لام الأمر علمنا أنه يفيد الوجوب وذلك كقوله تعالى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ وقوله تعالى ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ فقوله (لينفق) في الموضعين يفيد الوجوب فأصل الفعل (ينفق) وهو مضارع لكن لما دخلت عليه لام الأمر وصار( لينفق ) أفاد الوجوب بسبب هذه اللام، وكقوله تعالى ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ وكقوله تعالى ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ فهذان الفعلان مضارعان ولكن صارا فعلا أمر لما دخلت عليهما لام الأمر فأفاد حينئذٍ الوجوب. والأمثلة عليها كثيرة.
الثالثة: لفظ (كتب عليكم) فإنها تفيد الوجوب، كقوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ وكقوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وقوله تعالى﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي ما أوجبناها ولا فرضناها عليهم، وكقوله تعالى ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْن.....الآية﴾ وكقوله صلى الله عليه وسلم »إن الله كتب عليكم الحج فحجوا« وكقوله »إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته«"رواه مسلم" وغير ذلك من الأمثلة.
الرابعة: اسم فعل الأمر، كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ألزموا خاصة أنفسكم بفعل ما يزكيها من فعل المأمور وترك المحظور وكقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر الطويل في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة وفيه »فإذا قال حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.....الحديث«"رواه مسلم" فقوله (حي) معناه أقبلوا، لكن لم يعبر بفعل الأمر وإنما عبر باسمه وهو قوله (حي). ومنه قولك لمن أردته أن يسكت (صه) وكذلك قول العرب (مه) كما في حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها وعندها فلانة تذكر من صلاتها فقال »مه يا عائشة عليكم من الأعمال بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه«"وهو عند البخاري" .
الخامسة: ترتيب العقاب والذم على الترك، فإن كل فعل رتب على تركه العقاب أو الذم فإنه واجب، كقوله تعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وكقوله تعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ والآيات في هذه المعنى كثيرة جداً.
السادسة: التصريح بلفظ الأمر كقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وكقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وكقوله صلى الله عليه وسلم »و أنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهن : السمع و الطاعة
والجهاد والهجرة والجماعة«" حديث صحيح رواه الترمذي وغيره" .
السابعة: صيغة (فرض) وما تصرف منها، كقوله تعالى ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ أي أوجبنا العمل بها، وفي الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال » إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...الحديث«.
الثامنة: المصدر النائب عن فعل الأمر كقوله تعالى ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ أي فاضربوا رقابهم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »لن ينجي أحد منكم عمله...الحديث« وفيه »والقصد القصد تبلغوا« "متفق عليه" فهذه بعض الصيغ التي يعرف بها الواجب والأمثلة على ذلك كثيرة وإنما المقصود الإشارة لبعض شواهدها والله تعالى أعلى وأعلم.
سـ13/ ما أقسام الواجب باعتبار الفاعل ؟ مع بيان الفرق بينهما ؟ وإيضاح ذلك بالتمثيل ؟ وأيهما أفضل ؟
جـ/ أقول: للواجب تقسيمات متعددة، ولكن السؤال هنا محصور في تقسيم الواجب باعتبار الفاعل، وقد قسم أهل العلم رحمهم الله تعالى الواجب باعتبار الفاعل إلى قسمين: واجب عيني وواجب كفائي، وعرفوا الواجب العيني: بأنه ما يتحتم أداؤه على كل مكلف، وعرفوا الواجب الكفائي: بأنه ما يتحتم أداؤه على بعض المكلفين، لا من كل فرد بحيث إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وسمي الواجب العيني عينياً لأنه نظر فيه إلى عين المكلف وذاته، أي نظر فيه إلى ذات كل مكلف بخصوصه، وسمي الواجب الكفائي كفائياً لأنه نظر فيه إلى حصول الكفاية أي أن بعض المكلفين اكتفى بفعل البعض، وأما الفرق بينهما فبيانه أن يقال: إن الواجب العيني يطلب من كل مكلفٍ، فلا تبرأ ذمة المكلف إلا إذا فعله هو بعينه فلو فعلته الدنيا كلها إلا هو، لم تبرأ ذمته لأن هذا الواجب متعلق بالعين، فلا يقوم به مكلف عن مكلف، بل لابد أن يقوم به كل مكلفٍ بعينه، وذلك كالصلاة المفروضة فإنها فرض عين على كل أحد بعينه وكصوم رمضان فإنه فرض عين على كل أحد، فلا يجزئ صوم أحدٍ عن أحد، وكصلة الأرحام فإنه لابد أن يقوم بها كل أحد له رحم بعينه فلا يقوم بها أحد عن أحد وهكذا فإذا كان الوجوب منصباً على كل أحدٍ بعينه فإن هذا يعرف بالواجب العيني أي أن النظر في الواجب العيني يكون لذات الفاعل، وأما الواجب الكفائي فإن النظر فيه يكون لتحقق الفعل، لا لذات الفاعلين، فإذا تحقق الفعل بالبعض سقطت المطالبة عن من لم يقم به، فلا يطلب أن يقوم به كل أحد بعينه كالجهاد إذا لم يكن النفير عاماً، فإنه إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وكالصلاة على الميت فإنه إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكرد السلام فإن رده واجب كفائي فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكتشميت العاطس فإنه واجب كفائي على القول الصحيح فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وكتغسيل الميت وتكفينه ودفنه فإنه واجب كفائي فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكإنقاذ الغريق فإنه واجب كفائي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى وتعليم العلم الشرعي، هي من فروض الكفايات إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكالأذان والإقامة فقد نص أهل العلم على أنهما من فروض الكفايات إذا قام من يكفي سقط الإثم عن الباقين وكتعلم الصناعات التي تحتاجها الأمة فإنها فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين والأمثلة على ذلك كثيرة، فالمطلوب في الواجب الكفائي وجود الفعل وتحققه فمتى ما وجد وتحقق كفى ذلك المقدار، ويدخل تحت ذلك مسألة تعلم العلم الشرعي، فإن تعلم العلم الذي تتوقف عليه صحة العقيدة والعبادة فرض عين على كل أحد، لأن تصحيح العقيدة والعبادة واجب، ولا يتم إلا بطلب ذلك النوع من العلم وقد تقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما زاد على هذا المقدار فإنه فرض كفاية بالنظر إلى عموم الأمة وسنة بالنظر إلى الأفراد فطلب العلم منه ما هو فريضة عينية ومنه ما هو فرض كفائي ومنه ما هو سنة فهذا بالنسبة للأقسام وإيضاح الفرق بالأمثلة.
وأما قوله (وأيهما أفضل)
فالجواب أن يقال: اختلف أهل العلم في ذلك والقول الصحيح إن شاء الله تعالى أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية، وذلك لأن الشارع لم يكتف فيه بفعل البعض، بل طلبه من الكل وهذا يدل على أفضليته وأهميته، وأما فرض الكفاية فإنه لم يطلب من الكل وإنما طلب من البعض فقط، فلأن فرض العين طلب من الكل فيكون بذلك أفضل, وهناك علة أخرى أيضاً وهي أن يقال إن المشقة الحاصلة بفرض العين أكبر من المشقة الحاصلة بفرض الكفاية، ففرض العين أشق من فرض الكفاية فالأجر فيه أكبر وأكثر ويدل على ذلك أيضاً أن كثيراً من أهل العلم ذكروا أنه إذا تعارض واجبان وكان أحدهما من واجبات العين والآخر من واجبات الكفاية، فإن واجب العين مقدم على واجب الكفاية، لأن حسنته أكبر واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والله أعلم.
****
سـ14/ هل يمكن أن يكون الواجب الكفائي واجباً عينياً؟ وضح ذلك بالأمثلة ؟
جـ/ أقول: نعم، يمكن ذلك، وذلك أننا قدمنا أن المقصود من الواجب الكفائي وقوع الفعل دون النظر إلى فاعله، فإذا لم يوجد من يقوم به غيره فلا مستطيع له إلا ذلك الشخص فإنه يكون واجباً عينياً في حقه، ويكفي في ذلك غلبة الظن فمن غلب على ظنه أن غيره لا يقوم بفرض الكفاية فإنه يتعين عليه هو أن يقوم به، وعلى ذلك أمثلة:
منها: إذا لم يكن في البلد أحد يعرف السنة في تغسيل الميت إلا هذا الرجل فقط فإن تغسيل الميت يكون في حقه فرض عين, مع أنه كان فرض كفاية لكن طرأ عليه ما يجعله فرض عين وهو غلبة ظنه أنه لا يقوم أحد بالتغسيل إلا هو، فهذه الغلبة قلبت فرض الكفاية إلى فرض العين والله أعلم.
ومنها: إذا علمت أو غلب على ظنك في هذا المنكر أنه لا ينكره أحد وكانت عندك القدرة لإنكاره فإن إنكار هذا المنكر المعين في هذه الحالة يكون فرض عين في حقك.
ومنها: لو غرق شخص في نهر وحوله الخلق مجتمعون ولكن لا يعرف السباحة منهم أحد إلا واحد فقط، فيكون إنقاذ الغريق في هذه الحالة في حق هذا الشخص فرض عين، لأنه غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به، وأنه لا قدرة لأحد في إنقاذه إلا هذا الرجل فينقلب فرض الكفاية في حقه فيكون فرض عين والله أعلم.
ومنها: لو دخل العدو ديار المسلمين ولم يتمكن الجند من صدهم فإنه يتعين على كل مسلم قادر في هذه البلد أن يجاهد بدفع العدو عن حرمات المسلمين وأموالهم ما ستطاع إلى ذلك سبيلاً، فانقلب الجهاد من فرض كفاية إلى فرض عين لعدم كفاية الجند لذلك.
ومنها: لو مات رجل في مكان ولم يوجد به من يصلي عليه إلا هذا الرجل فإن صلاة الجنازة تكون فرض عين في حقه لأنه يعلم أو يغلب على ظنه أنه لن يقوم بالصلاة إلا هو فتكون فرض عين في حقه.
ومنها: لو لم يوجد في البلد أحد يعرف السنة في الدفن إلا واحد فيكون دفن الميت في حقه من فروض الأعيان.
ومنها: الأمر بالمعروف النهي عن المنكر على موظفي الهيئات من فروض الأعيان لا من فروض الكفاية لأن ولي الأمر عينهم لذلك وأمرهم به بأعيانهم فيجب عليهم وجوب عين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، مع أنه في حق غيرهم لا يزال باقياً على أصل حكمه الأول الذي هو فرض كفاية وبالجملة فإنه إذا غلب على ظن المكلف أن غيره لم يقم بالواجب الكفائي وهو قادر على القيام به، أصبح هذا الواجب في حقه من واجبات الأعيان وعلى ذلك فقس، وإن أردت القاعدة في هذه المسألة ليسهل عليك الأمر فأقول: نص القاعدة يقول: (فروض الكفايات تتعين على من لم يقم بها غيره) والله ربنا أعلى وأعلم.
سـ15/ من المخاطب بفرض الكفاية ؟ وهل يلزم بمجرد الشروع فيه ؟
جـ/ أقول: هاتان مسألتان خلافيتان والصحيح إن شاء الله تعالى، أن المخاطب بفرض الكفاية جميع المكلفين، أي أن فرض الكفاية موجه لجميع الأمة أي المكلف منهم، وفعل بعضهم لهذا الواجب مسقط للطلب منهم، وهذا مذهب جماهير أهل الأصول رحمهم الله تعالى، ودليل ذلك أن العلماء اتفقوا على ترتيب الإثم على الجميع إذا لم يقم به أحد فتأثيم الجميع موجب لتكليفهم جميعاً، لأنه لا يمكن أن يؤاخذ الإنسان على شيء لم يكلف به، فدل على أن وجوبه والخطاب به كان متوجهاً لكل مكلف فهذا بالنسبة للشق الأول من السؤال، وأما بالنسبة للشق الثاني فالصحيح إن شاء الله تعالى أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه إلا في حالتين:
الأولى: في الجهاد في سبيل الله تعالى، ذلك لأنه إذا شرع في الجهاد ثم ترك الصف فإن في ذلك كسر لقلوب الجند وإضعاف لشوكة المسلمين وفيه تخذيل لهم عن مواصلة القتال، ولأنه بمجرد حضوره لصف القتال يكون الجهاد قد وجب عليه وجوب عين فلا يجوز له الرجوع بحال، ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (16) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
الثانية: صلاة الجنازة، فإنه إذا شرع فيها تعينت عليه ذلك لأن الانسحاب منها فيه هتك حرمة الميت، ولعموم قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾.
والله أعلى و أعلم..
يتبع إن شاء الله