آخر هجوم قام به المشركون
ولما تمكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين .
قال ابن إسحاق : بينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا " ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل .
وفي مغازي الأموي : أن المشركين صعدوا على الجبل ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لسعد : ( اجْنُبْهُمْ ) ـ يقول : ارددهم ـ فقال : كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلاثاً ، فأخذ سعد سهماً من كنانته ، فرمي به رجلاً فقتله ، قال : ثم أخذت سهمي أعرفه ، فرميت به آخر، فقتلته ، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته ، فهبطوا من مكانهم ، فقلت : هذا سهم مبارك ، فجعلته في كنانتي . فكان عند سعد حتى مات ، ثم كان عند بنيه .
تشويه الشهداء
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم ، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين ، يمثلون بهم ، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ، ويبقرون البطون . وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ، ومدى استماتتهم في سبيل الله :
1. قال كعب بن مالك : كنت فيمن خرج من المسلمين ، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم . وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه ، وقال : كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة .
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ، قال أنس : لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ـ أرى خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم . وقال عمر : كانت [ أم سَلِيط من نساء الأنصار ] تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن ، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم : هاك المغزل ، وهلم سيفك . ثم سارعت إلى ساحة القتال ، فأخذت تسقي الجرحى ، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ، فوقعت وتكشفت ، فأغرق عدو الله في الضحك ، فشق ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له ، وقال : ( ارم به ) ، فرمى به سعد ، فوقع السهم في نحر حبان ، فوقع مستلقياً حتى تكشف ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى بدت نواجذه ، ثم قال : ( استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوته ) .
بعد إنتهاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)إلى الشعب
ولما استقر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل : هو صخرة منقورة تسع كثيراً . وقيل : اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليشرب منه ، فوجد له ريحاً فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : "اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه " .
وقال سهل : والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها فاستمسك الدم .
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبي(صلى الله عليه وسلم) ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً .
شماتة أبي سفيان
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ، فـنادي أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه . فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجبيبوه . فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم . فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك .
فقال : قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني .
ثم قال : أعْلِ هُبَل.
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم): ( ألا تجيبونه ؟ ) فقالوا : فما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله أعلى وأجل ) .
ثم قال : لنا العُزَّى ولا عزى لكم .
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : ( ألا تجيبونه ؟ ) قالوا : ما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله مولانا ، ولا مولي لكم ) .
ثم قال أبو سفيان : أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال .
فأجابه عمر ، وقال : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار .
ثم قال أبو سفيان : هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ائته فانظر ما شأنه ؟ ) فجاءه ،
فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ قال عمر : اللّهم لا . وإنه ليستمع كلامك الآن . قال : أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر .
مواعدة التلاقي في بدر
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل .
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه : ( قل : نعم ، هو بيننا وبينك موعد ) .
التثبت من موقف المشركين
ثم بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب ، فقال : "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ وما يريدون ؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل ، وامْتَطُوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم ". قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووَجَّهُوا إلى مكة .
تفقد القتلى والجرحى
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش . قال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . فقال لي : ( إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له : يقول لك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : كيف تجدك ؟ ) قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، فيه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت : يا سعد ، إن رسول الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السلام ، قل له : يا رسول الله ، أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته .
ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه ، فقالوا : إن هذا الأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ، ثم سألوه : ما الذي جاء بك ، أحَدَبٌ على قومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم قاتلت مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أصابني ما ترون ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال : ( هو من أهل الجنة ) . قال أبو هريرة : ولم يُصَلِّ لله صلاة قط .
ووجدوا في الجرحى قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة ، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر ، وبشره المسلمون فقال : والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه . وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول ـ إذا ذكر له : ( إنه من أهل النار ) ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله ، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام ، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة ، قال لقومه : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق . قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال :لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته ، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد . يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل . فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( مُخَيرِيق خير يهود ) .
جمع الشهداء ودفنهم
وأشرف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الشهداء فقال : " أنا شهيد على هؤلاء ، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة ، يَدْمَي جُرْحُه ، اللون لون الدم ، والريح ريح المِسْك " .
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم ، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا ، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود . وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ، ويقول : " أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن ؟ " فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد ، وقال : "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " .
ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .
وفقدوا نعش حنظلة ، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء ، فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن الملائكة تغسله ، ثم قال : ( سلوا أهله ما شأنه ؟ ) فسألوا امرأته ، فأخبرتهم الخبر . ومن هنا سمي حنظلة : غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ابنها الزبير أن يصرفها ، لا ترى ما بأخيها ، فقالت ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له . ثم أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته ، وأخاه من الرضاعة .
قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب . وضعه في القبلة ، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع : الشهيق .
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد . قال خباب : إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء ، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه ، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ، حتى مدت على رأسه ، وجعل على قدميه الإِذْخَر .
وقال عبد الرحمن بن عوف : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وروي مثل ذلك عن خباب ، وفيه : فقال لنا النبي(صلى الله عليه وسلم) : "غطوا بها رأسه ، واجعلوا على رجليه الإذخر ".
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يثني على ربه عز وجل ويدعوه
روى الإمام أحمد : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " استووا حتى أثني على ربي عز وجل " ، فصاروا خلفه صفوفاً ، فقال :
" اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مبعد لما قربت . اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك .
اللهم إني أسألك النعيم المقيم ، الذي لا يحُول ولا يزول . اللهم إني أسألك العون يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف . اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين . اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين . اللّهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك . اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق ".
الرجوع إلى المدينة ونوادر الحب والتفاني
ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة .
لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش ، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولوت ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "إن زوج المرأة منها لبِمَكان " .
ومر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة .
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ، وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال : يا رسول الله ، أمي ، فقال : "مرحباً بها "، ووقف لها ، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ . فقالت : أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد ، وقال : " يا أم سعد ، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً ، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً ". قالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا ؟ ثم قالت : يا رسول الله ، ادع لمن خلفوا منهم ، فقال : " اللّهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا " .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) في المدينة
وانتهى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة .
فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال : ( اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فو الله لقد صدقني اليوم )، وناولها على بن أبي طالب سيفه ، فقال : وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه ، فو الله لقد صدقني اليوم ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة " .
قتلى الفريقين
اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين ، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار ، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً ، واحد وأربعون من الخزرج ، وأربعة وعشرون من الأوس ، وقتل رجل من اليهود .
وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط .
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً ، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير ، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون ، لا اثنان وعشرون ، والله أعلم .
حالة الطوارئ في المدينة
بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وهم في حالة الطوارئ ، باتوا ـ وقد أنهكهم التعب ، ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خاصة ، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب .
غزوة حمراء الأسد
وبات الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو يفكر في الموقف ، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال ، فلا بد من أن يندموا على ذلك ، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية ، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي .
قال أهل المغازي ما حاصله : إن النبي(صلى الله عليه وسلم) نادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال : ( لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ) ، فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ؟ قال : ( لا ) ، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد ، والخوف المزيد ، وقالوا : سمعاً وطاعة . واستأذنه جابر بن عبد الله ، وقال : يا رسول الله ، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له .
وسار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، على بعد ثمانية أميال من المدينة ، فعسكروا هناك .
وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلم ـ ويقال : بل كان على شركه ، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك . فأمره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه .
ولم يكن ما خافه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً ، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم ، قال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم .
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ، ولذلك خالفهم زعيم مسئول [ صفوان بن أمية ] قائلاً : يا قوم ، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم ، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم . إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة ، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة ، ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه ، فقال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة : محمد قد خرج في أصحابه ، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط .
قال أبو سفيان : ويحك ، ما تقول ؟
قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة .
فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم .
قال : فلا تفعل ، فإني ناصح .
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب ، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة ، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي ، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة ، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه . فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة ، فقال : هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة ، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة ؟
قالوا : نعم .
قال : فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ، لنستأصله ونستأصل أصحابه .
فمر الركب برسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وهم بحمراء الأسد ، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان ، وقالوا : " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ " ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ " إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "[آل عمران: 173، 174] .
أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحمراء الأسد ـ بعد مقدمه يوم الأحد ـ الإثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ـ ثم رجع إلى المدينة ، وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أسارى بدر ، لفقره وكثرة بناته ، على ألا يظاهر عليه أحداً ، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، كما أسلفنا ، وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال : يا محمد أقلني ، وامنن علي ، ودعني لبناتي ، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " ، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة ، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله . فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش ، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فتعقباه حتى قتلاه .
ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة ، وإنما هي جزء من غزوة أحد ، وتتمة لها وصفحة من صفحاتها .
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها ، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة ، هل كانت هزيمة أم لا ؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين ، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال ، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح ، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً ، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي ، لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح .
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين ، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الارتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته ، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي ، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار ، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين ، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره ، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون ، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال ، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب ، وكانت مفتوحة وخالية تماماً .
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلا وحاشا .
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال ، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد .
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة ، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة ، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو ، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة .
وإلى هذا يشير قوله تعإلى: " وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ " [النساء: 104]، فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم ، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين ، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب .